بعيداً من سجالات السياسة والحرب، كشفت أرض ليبيا عن كنز تاريخي جديد، يحكي قصة عصر من عصور الحضارات الإنسانية المتنوعة التي عرفتها البلاد بسبب موقعها الاستراتيجي، كواحدة من أهم البوابات البحرية على القارة الأفريقية، ما جعلها محط نزاع دائم بين غزاة جدد وآخرين سبقوهم إليها.
قبل أيام قليلة، أماطت مصلحة الآثار الليبية اللثام عن اكتشاف جديد، في كهف منزوٍ بعيد من الأنظار على ضفاف البحر المتوسط، يحتوي على نقوش ضاربة في القدم وأدوات من فخار، من النوع الذي استخدمه على الأرجح، إنسان ما قبل التاريخ، حسب قراءات أولية لخبراء المصلحة للقطع الأثرية في ذلك الكهف.
بعيد من الأنظار
وأعلنت مصلحة الآثار الليبية اكتشاف كهف أثري كبير يرجع إلى فترة ما قبل التاريخ، في منطقة ميراد مسعود على شاطئ البحر، شرقي مدينة المرج، الواقعة على بعد 100 كيلومتر شرق بنغازي.
وأوضحت المصلحة أن "الكهف يحتوي على رسومات صخرية متمثلة بأشكال آدمية وحيوانية وعدد من الكسر والبقايا الحجرية والعظام، كالفؤوس والسهام الحجرية".
وبيّنت المصلحة عبر صفحتها على "فيسبوك" أن "الكهف مكوّن من ثلاث فتحات محفورة في الصخر، ويقع شرق موقع العقلة، ويطل على البحر مباشرةً وله طريق منقور فى الصخر من الجهة الشرقية".
ووصف رئيس مصلحة الآثار الليبية، فرع المنطقة الشرقية، الدكتور أحمد حسين، اليوم الذي اكتُشف فيه الكهف بـ"العيد" بالنسبة إلى المصلحة، نظراً إلى أهميته. وأضاف أن "مكتب آثار توكرة وطلميثة دلنا على كنز رائع عبر هذا الاكتشاف، الذي تم بالصدفة عن طريق أحد المواطنين، لهذا الموقع الغني جداً بالاكتشافات الأثرية من فترة ما قبل التاريخ. وسيسلط الضوء على تاريخ الاستيطان البشري في سواحل ليبيا وشمال أفريقيا والبحر المتوسط بصفة عامة".
وتابع "مصلحة الآثار ستبدأ العمل بشكل عاجل لدراسة وتقييم المقتنيات الأثرية في الكهف، بالتواصل مع البعثات الأجنبية المختصة بهذا الشأن، لإظهار هذا الكهف على خريطة المواقع الأثرية في العالم"، متوقعاً أن "يغيّر هذا الاكتشاف الكثير مما كُتب عن عصور ما قبل التاريخ في ليبيا وشمال أفريقيا".
ووصف رئيس آثار منطقة طلميثة، الذي يقع هذا الاكتشاف ضمن نطاقها، موقع الكهف وأهميته، قائلاً إن "الاكتشاف الأثري يقع داخل كهف كبير بثلاث فتحات ضخمة على شاطئ البحر، وبحسب الرسومات والأدوات الموجودة فيه، فإنه كان مستخدَماً في عصور ما قبل التاريخ، لكنه يحتاج إلى دراسة مستفيضة لتحديد الفترة التاريخية التي استُخدم فيها من قبل الإنسان على وجه الدقة".
إضافة جديدة لكنز فريد
ويمثل هذا الاكتشاف الجديد إضافة مهمة إلى كنوز ليبيا التاريخية المتنوعة والمتناثرة في طول البلاد وعرضها، في عشرات المواقع الأثرية التي تعود إلى فترات مختلفة من التاريخ، وتصنف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) خمسة منها ضمن قائمة التراث العالمي.
كما تلقت مصلحة الآثار الليبية العام الماضي إشعاراً من "اليونيسكو" بقبول ملفات الترشيح واستيفاء الشروط والمعايير الفنية والعلمية المطلوبة، لثلاثة مواقع أثرية ليبية، وهي مدينة طلميثة، وكهف هواء فطيح بالجبل الأخضر، ومدينة قرزة الأثرية بسرت، وتسجيلها على القائمة المبدئية للتراث الثقافي العالمي.
كهوف أثرية متنوعة
ويمثل الكهف المكتشَف حديثاً، في شرقي ليبيا، إضافة جديدة إلى سلسلة كهوف أثرية مميزة منتشرة على امتداد رقعة البلاد الجغرافية، في الجبال والصحاري وعلى شريطها الساحلي الطويل.
أهم الكهوف الأثرية الليبية هو كهف "هوا فطيح" المشهور جداً، ويقع بين منطقتي رأس الهلال وسوسة الأثريتين في الشرق، ويُعرف أيضاً باسم "باب فطيح" وفي بعض المراجع التاريخية ذُكر هذا الكهف باسم "باب الفتايح" وهو كهف كبير جداً، من أكبر الكهوف في ليبيا، ومن بين الأكبر في شمال أفريقيا، إذ يبلغ ارتفاعه نحو 23 متراً وعرضه 72 متراً بعمق 30 متراً.
اكتُشف هذا الكهف بواسطة عالم آثار إنجليزي، بداية القرن الماضي، ويُروى أنه مكث عند الكهف ثلاث سنوات، وتوصل في نهاية التنقيب والدراسة إلى جمجمة وبقايا جسم إنسان قديم نقله إلى المتاحف البريطانية.
وتتواصل إلى اليوم عملية التنقيب والحفر في هذا الكهف من قبل فريق بحث تابع لإحدى الجامعات البريطانية، وذلك لمدة عشرة أيام في فصل الصيف من كل عام.
ألغاز كهوف أكاكوس
الموقع الثاني من حيث الأهمية بين كهوف ليبيا الأثرية، هو موقع "تدرارت أكاكوس"، الواقع ضمن سلسلة جبال صحراوية قرب الحدود الجزائرية، تمتد لمسافة 250 كيلومتراً مربعاً، وتضم مواقع أثرية عدة، وتتميز بما يُعرف بفن الكهوف، وهي لوحات تمثل الإنسان أو الحيوان، تعود إلى الفترة، من 12 ألف سنة قبل الميلاد وحتى القرن الأول للميلاد، والموقع مسجل في قائمة التراث العالمي لـ"اليونيسكو" منذ عام 1985.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعكس هذه الرسوم التي تصوّر الحيوانات خصوصاً، التغيرات التي طرأت على الثروة الحيوانية والنباتية، وكذلك أنماط الحياة المتنوعة للشعوب التي تتالت على هذا الجزء من الصحراء الكبرى في ليبيا.
وتأخر اكتشاف هذا الموقع الأثري الثمين إلى منتصف القرن الماضي تقريباً، بسبب موقعه الجغرافي الصعب، حيث يقع ضمن مجموعة من تشكيلات الصخور البركانية والرملية الغريبة الشكل، ويُعرف باسم "الغابات الحجرية".
ويرجع اكتشاف هذه الكهوف النادرة إلى عام 1938، فبينما كان الرحالة الفرنسي "برنبان" يجتاز الحدود الجزائرية - الليبية لفتت انتباهه مجموعة كهوف تنتشر في مرتفعات جبلية عجيبة، فتوجه لاستكشافها، وعثر فيها على اكتشافات أثرية نادرة فاقت كل توقعاته.
وذكر برنبان، في كتاباته عن تلك الكهوف، أنه وجد داخلها نقوشاً ورسوماً كثيرة ومتنوعة ما بين صور لعمليات رعي الأبقار وسط مروج ضخمة، وصور لخيول، ونقوش لأنهار وحدائق غنّاء، وحيوانات برية، ومراسم دينية، وبعض الآلهة القديمة.
الجزء الذي أدهش الرحّالة الفرنسي والعالم من بعده، تجسد في اكتشافه رسومات عجيبة لمخلوقات بشرية تطير في السماء وترتدي أجهزة طيران، ونقوشاً لأشياء تشبه سفن الفضاء وروادها، ورجالاً ونساءً يرتدون ثياباً حديثة كالتي نرتديها في عصرنا الحالي، ورجالاً يرتدون لباس الضفادع البشرية.
وأثار هذا الاكتشاف الملهم اهتمام علماء الآثار ووسائل الإعلام الدولية، لتتوالى بعدها زيارات البعثات العلمية إلى هذه المواقع، جرى أبرزها في عام 1956 عندما قام الرحّالة، هنري لوت، برفقة مجموعة كبيرة من العلماء بزيارة تلك الكهوف والتقطوا لها صوراً فوتوغرافية عدة.
وبعد البحث والدراسة باستخدام وسائل متطورة للغاية كالتحليل الذري لمعرفة عمر تلك النقوش، جاءت النتيجة المذهلة، إذ قدّر الخبراء عمر تلك الرسوم والنقوش بأكثر من عشرة آلاف سنة، بينما لا يزال سر الأشكال الغريبة التي جسدتها رسومات الإنسان القديم على حوائط هذه الكهوف الصحراوية الغامضة، عصياً على التفسير المقنع حتى يومنا هذا.
وتوجد في ليبيا كهوف أخرى كثيرة، أقل أهمية من الناحية التاريخية، مثل كهف الطيور وكهف النعامة في وادي زازا، وهي من مواقع ما قبل التاريخ في الجبل الأخضر (شرق) التي تحوي في بطونها الكثير من أسرار التاريخ الليبي القديم.