تمر هذه الأيام ذكرى توقيع "بروتوكول باريس" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، في العاصمة الفرنسية، في 29 أبريل (نيسان) 1994، ليمثل الشق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو التي مهدّت في ما بعد لقيام السلطة الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وجاء البروتوكول ليكون ناظماً للعلاقة الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية، في الفترة الانتقالية وفقاً لاتفاق أوسلو. وكان من المفترض أن تنتهي عام 1999، لكن فشل المفاوضات بين الجانبين على قضايا الحل النهائي (القدس والحدود واللاجئين والمياه) خلال الفترة الانتقالية، والوقائع على الأرض وأبرزها انعدام السيطرة الفلسطينية على الحدود والمنافذ التجارية، جعلت من بنود "بروتوكول باريس" سارية حتى اليوم.
وكرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال الأشهر الماضية تصريحات مفادها بأن الجانب الفلسطيني لم يعد بإمكانه القبول باستمرار الوضع الحالي، في إشارة منه إلى رفض "تأبيد" المعطيات التي كانت قائمة في المرحلة الانتقالية وما تضمنته من قيود على السلطة الفلسطينية.
قيود سياسية
ضيّق البروتوكول من هامش التحرك السياسي أمام السلطة الفلسطينية، في ضوء تحكم إسرائيل بجباية معظم إيراداتها المالية. وسبق أن حجبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تلك الإيرادات، كلما أقدم الفلسطينيون على تبني قرارات سياسية تتناقض مع المصالح الإسرائيلية. وهو ما مثّل هاجساً أمام صناع السياسة الفلسطينية على مدار 25 عاماً، ومنع حتى الآن تنفيذ قرارات سبق أن صدرت عن هيئات قيادية فلسطينية بالتحرر من الاتفاقات مع إسرائيل.
ومن المقرر أن يجتمع المجلس المركزي الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) في وقت لاحق من شهر مايو (أيار)، وعلى جدول أعماله مجدداً إعادة النظر في العلاقات الفلسطينية مع إسرائيل، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، في وقت تواجه الحكومة الفلسطينية ضائقة مالية شديدة، بسبب عدم تلقيها أموال المقاصة من إسرائيل.
وأموال المقاصة هي العائدات الضريبية الفلسطينية، التي نصّ "بروتوكول باريس" على أن تقوم الحكومة الإسرائيلية بجبايتها على السلع والخدمات المستوردة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، بحكم سيطرتها المطلقة على كافة الموانئ والمنافذ التجارية، ثم تحويلها شهرياً إلى السلطة الفلسطينية مقابل عمولة نسبتها 3 في المئة من المبلغ الإجمالي.
ويبلغ معدل هذه العائدات 200 مليون دولار شهرياً، وهي تمثل ثلثي إيرادات الحكومة الفلسطينية. ويرفض الجانب الفلسطيني استلامها من إسرائيل منذ فبراير (شباط) الماضي، بسبب تطبيق قانون صادق عليه الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) في سبتمبر (أيلول) 2018، وينص على اقتطاع مجموع المبالغ التي تدفعها السلطة الفلسطينية إلى عائلات المعتقلين في السجون الإسرائيلية ومقدارها 41 مليون شيكل (13 مليون دولار) شهرياً من أموال المقاصة.
ويرى أكاديميون فلسطينيون أن الهامش المتاح أمام الفلسطينيين لتعديل البروتوكول لمصلحتهم يبدو "شبه معدوم" في ظل انسداد الأفق السياسي. في المقابل، يفيد الموقف الرسمي الفلسطيني بأن الأمر لا يزال قيد الدراسة وأن أي موقف لم يتخذ بعد.
وكلّما أوقفت إسرائيل تحويل الأموال التي تجبيها نيابة عن السلطة الفلسطينية، تدخل الأخيرة في أزمة شديدة تحول دون تمكنها من الوفاء بالتزاماتها تجاه دفع معاشات شهرية لموظفيها، واضطراب العمل في مؤسساتها المختلفة.
انسداد الأفق
يرى نصر عبد الكريم، أستاذ الاقتصاد في الجامعة العربية الأميركية، أن "المطالبة بعلاقات اقتصادية ندية ومنصفة وعادلة للجانب الفلسطيني بعيداً من الهيمنة والتبعية للاقتصاد الفلسطيني أمر محق، لكن السؤال المركزي يتمثل بقدرة الفلسطينيين على ذلك في ظل انسداد الأفق السياسي، والتوقعات برفض إسرائيل لأي مقترح من هذا القبيل". ويضيف أن البروتوكول ولد من رحم القيود السياسية والأمنية التي فرضها اتفاق أوسلو، الذي كان من المفترض أن عمره يمتد حتى نهاية المرحلة الانتقالية، لكنه بقي قائماً منذ ربع قرن.
ويعتقد عبد الكريم أن العلاقات الاقتصادية القائمة هي "نتيجة الأمر الواقع على الأرض والاحتلال العسكري، خصوصاً أن إسرائيل قامت بانتقاء ما يناسبها من بنود بروتوكول باريس وتركت بنوداً أخرى".
قيود اقتصادية
ولم يحرم البروتوكول الفلسطينيين من هامش المناورة سياسياً فحسب، بل جعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي، عندما نص على أن الغلاف الجمركي موحد بين الجانبين ومنع أي عوائق جمركية تعطل تدفق السلع والخدمات بينهما. وهو ما أسهم في إغراق السوق الفلسطينية بالمنتجات الإسرائيلية، وتراجع القاعدة الإنتاجية (الصناعة والزراعة) في الضفة والقطاع بسبب عدم القدرة على المنافسة مع المنتج الإسرائيلي، وانتقلت الأيدي العاملة الفلسطينية (الرخيصة) إلى الاقتصاد الإسرائيلي.
ودفع "بروتوكول باريس" سياسات السلطة الفلسطينية إلى تبني تسهيلات أمام الاستيراد، من أجل تعظيم الإيرادات من خلال الجباية الجمركية على المستوردات، ولم يكن بالإمكان منح المنتج المحلي إعفاءات ضريبية من أجل زيادة منافسته أمام نظيره الإسرائيلي، بسبب حاجة الخزينة العامة الفلسطينية للمال من أجل تغطية النفقات. ما أسهم في إغراق السوق الفلسطينية بالمنتج الإسرائيلي بشكل دائم.
وتنفرد بنود النفقات في موازنة الحكومة الفلسطينية ببند غير موجود في موازنات حكومات العالم، وهو "صافي الإقراض". والمقصود به، المبالغ التي تقوم الحكومة الإسرائيلية باقتطاعها من جانب واحد من أموال المقاصة عند جبايتها، بدلاً عن خدمات الكهرباء والمياه والعلاج للمرضى الفلسطينيين في المستشفيات الإسرائيلية. وأفادت بيانات نشرتها وزارة المالية الفلسطينية في أبريل الماضي أن مجموع ما اقتطعته إسرائيل من جانب واحد بلغ 3.7 مليار دولار خلال السنوات العشر الماضية.
وتعتمد الأراضي الفلسطينية على إسرائيل في توفير معظم حاجاتها من الطاقة الكهربائية، في حين بقيت المستشفيات الفلسطينية غير قادرة على توفير بعض خدمات العلاج المتعلقة بالأورام وزراعة الأعضاء. وهو ما يدفع وزارة الصحة إلى تحويل حوالى 15 ألف مريض سنوياً إلى المستشفيات الإسرائيلية.
كما أن "بروتوكول باريس" يحدد بالاسم عشرات الأصناف من المنتجات والسلع التي يحظر على الفلسطينيين استيرادها بشكل مباشر من الخارج، ولا يمكن للتاجر الفلسطيني إلا أن يشتريها من المستورد الإسرائيلي.
لا قرار رسمياً بعد
يقول وزير الاقتصاد الفلسطيني خالد العسيلي إن "القيادة الفلسطينية تدرس بشكل جدي الخيارات التي يمكن تبنيها تجاه بروتوكول باريس، ولا يزال الأمر قيد الدراسة والتدقيق". ويضيف أن المعطيات كافة تغيرت بعد مرور 25 عاماً على توقيع البروتوكول، وهو ما يجعل الاستمرار بما ورد فيه أمر مستحيل بالنسبة إلى الفلسطينيين.
وحول المكتسبات التي يمكن تحقيقها من خلال المطالبة بتعديل الاتفاقات في ضوء المعطيات السياسية الراهنة، يقول العسيلي إن "السنوات الطويلة من عمر البروتوكول أكسبتنا خبرة كبيرة حول كيفية المحافظة على مصالحنا".
وحول الجهة التي يمكن أن ترعى أي اتفاق جديد محتمل، أو تعديل على الاتفاق السابق، قال الوزير الفلسطيني "نحن نثق بالفرنسيين".
القطاع الخاص
يرى رئيس جمعية رجال الأعمال الفلسطينيين أسامة عمرو، أن الاقتصاد الفلسطيني "لا يمكن أن يتطور مع استمرار القيود التي يفرضها بروتوكول باريس"، لافتاً إلى أن "الحاجة ماسة لإدخال تعديل عليه يمنح الاقتصاد الفلسطيني الحرية المطلقة في اختيار ما هو مناسب له من حيث الإنتاج والتصدير والاستيراد والسياسة الجمركية"، لكنه يستبعد في الوقت نفسه موافقة إسرائيل على ذلك من دون وجود ضغوط دولية عليها.
وإلى حين توافر الإرادة الدولية لمنع تحكم إسرائيل في دخول الأفراد والبضائع إلى فلسطين، يقول عمرو إن "هناك إمكانية للتفاوض على الرسوم التي تجبيها إسرائيل مقابل استخدام الموانئ والمعابر الخاضعة لسيطرتها، وتحصيلها أموال الجمارك وضريبة القيمة المضافة على مستورداتنا، وكذلك القيود على تصدير منتجاتنا، خصوصاً الزراعية منها". ويسأل "هل بالفعل هناك ما يدعو الاحتلال إلى التغيير من سياساته الخانقة على اقتصادنا في ظل المعطيات السياسية القائمة؟".