لطالما تم توظيف الفن والصور عبر التاريخ للترويج للأجندات الثقافية والسياسية، وهو أمر لا يزال سائداً في عالمنا اليوم، ولكن تذهب السياسة وآثارها، وتنقضي الصراعات في النهاية، ولا يتبقى من كل ذلك سوى هذه الأعمال التي خلّفها هؤلاء الفنانون الكبار. وفي تاريخ الفن الحديث ثمة نماذج بارزة لهذا التداخل بين الفن والسياسة، لعل أبرزها وأكثرها وضوحاً يتمثل في هذه الفترة التي اعتلت فيها أسرة ميديتشي عرش فلورنسا.
صعود آل ميديتشي
في نحو منتصف القرن السادس عشر الميلادي وصل كوزيمو دي ميديتشي الأول إلى حكم فلورنسا بعد اغتيال سلفه أليساندرو دي ميديتشي، فكان وصوله إلى كرسي الحكم علامة فارقة في تاريخ هذه المقاطعة الإيطالية المهمة، إذ عمل دي ميديتشي فور توليه الحكم إلى تحويل فلورنسا من جمهورية يختار فيها الحكام بالانتخاب إلى دوقية تسيطر عليها عائلة دي ميديتشي. في سبيله إلى ذلك استخدم كوزيمو دي ميديتشي الثقافة والفن ببراعة كأداة سياسية من أجل تحويل المدينة التجارية العريقة إلى عاصمة لسلالته الحاكمة. فقد جند الرجل كبار المثقفين والفنانين في عصره من أجل الترويج للمشاريع المعمارية والهندسية والفنية الكبرى. وعلى الرغم من حالة الاضطراب التي سادت هذه الفترة فإنها مثلت واحدة من أبرز فترات التحول في تاريخ الفن الأوروبي خلال عصر النهضة، ويشار إليها دائماً بأنها من ألمع سنوات ازدهار الفن في تلك الحقبة، ويرجع السبب في ذلك إلى السخاء المادي الكبير وغير المسبوق لعائلة ميديتشي ورعايتها لعديد من الفنانين. وعلى الرغم من الأهداف الواضحة لهذا الدعم الواسع والمتمثل في ترسيخ صورة أسطورية وبراقة لأفراد هذه العائلة، فإنه ساهم بلا شك في انتعاش وتطور الممارسات الفنية في عصرهم، وتشهد على ذلك مئات الأعمال الفنية الخالدة الموزعة اليوم على متاحف العالم.
ومن أجل تسليط الضوء على تلك المرحلة وأهميتها في تاريخ الفن يستضيف متحف متروبوليتان حتى 11 من أكتوبر (تشرين الأول) القادم معرضاً تحت عنوان "بورتريهات وسياسة"، ويضم أعمالاً فنية لعدد من أشهر الفنانين الذين تألقوا خلال فترة حكم أسرة ميديتشي، وتمتعوا برعايتهم. ويمثل المعرض فرصة كبيرة ونادرة للتعرف على ملامح هذه الفترة عبر أعمال لم يسبق من قبل أن عرضت مجتمعة في مكان واحد. تم جلب هذه الأعمال واستعارتها من متاحف ومؤسسات كبرى حول العالم، من الولايات المتحدة إلى كندا واستراليا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، وتضم أعمالاً نادرة لفنانين كبار أمثال رافائيل وجاكوبو وبونتورمو وروسو وفيورنتينو وغيرهم من رموز هذه الفترة المهمة في تاريخ عصر النهضة. تبرز أعمال هؤلاء الفنانين الطرق والأساليب المختلفة التي عولجت بها الصور الشخصية للنخبة الحاكمة في فلورنسا، والتي تعكس الطموحات السياسية لهؤلاء الساسة أو الحكام الجدد، وتأثير الرعاية الفنية الواسعة في تطور هذه الأساليب.
فنانون وأسايب
يحتفي المعرض بإنجازات الرسامين والنحاتين الذين أبدعوا هذه الأعمال الخالدة، كما يستكشف السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي لهذه الأعمال، ويدعونا إلى تقدير قيمتها الفنية ودورها الثقافي والمجتمعي. يضم المعرض أكثر من 90 عملاً فنياً منفذة بوسائط مختلفة، من لوحات وتماثيل وميداليات ورسومات ونقوش ومخطوطات ودروع حربية ويشمل ستة أقسام، يخصص كل واحد منها لمرحلة أو موضوع محدد من شأنه أن يساعد في توضيح تأثير هذه الفترة على تطور الممارسات الفنية في فلورنسا وأوروبا بشكل عام.
عند دخول المعرض سيكون في استقبال الزائرين تمثال نصفي يتجاوز الحجم الطبيعي بقليل لكوزيمو دي ميديتشي من عمل فنان عصر النهضة بنفينوتو تشيليني، وهو من بين أبرز أعمال عصر النهضة، وتمت استعارته من متحف بارجيلو في فلورنسا. وأدى تنظيف التمثال النصفي إلى استعادة عينيه الفضيتين اللتين تحاكيان ممارسة كانت سائدة في المنحوتات البرونزية القديمة. إلى جانب هذه التحفة الفنية الشهيرة سيتم عرض نسخة رخامية لها من مقتنيات متحف الفنون الجميلة في سان فرانسيسكو، وهي المرة الأولى التي يتم فيها عرض هذين التمثالين معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يحمل القسم الأول من المعرض عنوان "من الجمهورية إلى الدوقية"، وهو يلقي نظرة سريعة على السنوات التي سبقت حكم كوزيمو دي ميديتشي. في هذه الفترة مارس معظم الفنانين أسلوباً صارماً يعكس قيم الجمهورية، وتميزت الصور الشخصية بألوان قاتمة مع غياب للزخارف، وإشارات إلى مهنة أو منصب صاحب الصورة. وبعد تنصيب كوزيمو دوقاً ظهرت ملامح التحول في الأسلوب الفني واضحة، كما يتمثل في صور الأمراء التي رسمها أجنولو برونزينو والمعارة للمعرض من متحف ستادل في فرانكفورت، حيث تبرز الصياغات الرمزية لتصبح أكثر وضوحاً مع اهتمام لافت بالتفاصيل والزخارف. وفي قسم ثالث سيتم تقديم بعض الشخصيات الرئيسة من أسرة ميديتشي ممن لعبوا دوراً حاسماً في ترسيخ حكم الأسرة، من بين هذه الأعمال ستطالعنا لوحة رافائيل الشهيرة التي يصور فيها لورينزو دي ميديتشي وهي تعود لمجموعة خاصة.
سعى كوزيمو دي ميديتشي إلى استغلال الإرث الفني والأدبي لفلورنسا لتعزيز مكانة بلاطه في جميع أنحاء أوروبا، وفي سبيل ذلك أنشأ مؤسسة أدبية مهمة باسم أكاديمية فيورنتينا، وستسلط مجموعة من اللوحات تعرض تحت عنوان "البورتريهات الشعرية" الضوء على الطرق التي جسد بها هذا التوجه الأدبي، وهي مجموعة من البورتريهات غالباً ما يظهر خلالها هؤلاء الرعاة والداعمون وهم يحملون كتباً أوراقاً صغيرة مكتوباً عليها قصائد شعرية، لتعزيز مكانة صاحب الصورة وإظهاره بأنه ملم بالقراءة والكتابة. هذا التوجه الرمزي تطور فيما بعد إلى تصوير هذه الشخصيات في صور أسطورية أو توراتية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك لوحة برونزينو الرمزية لكوزيمو في دور أورفيوس من متحف فيلادلفيا للفنون، وابنه جيوفاني في دور القديس يوحنا المعمدان، من غاليري بورغيزي في روما، واللوحة الأخيرة تعبر المحيط الأطلسي لأول مرة. أما القسم الأخير من المعرض فيقدم مقارنة بين الأسلوبين الفنيين اللذين كانا سائدين خلال تلك الفترة، وهما النمط الفلورنسي، الذي يمثله برونزينو، والنمط الإيطالي الذي تمثله أعمال سالفياتي، وكانت الغلبة في النهاية للنمط الأول بسبب الدعم السخي لآل ميديتشي.