"لم تنكر أنها تشعر بالدهشة هنا، واعتبرت هذا حقاً لها، بخاصة أنه لا يضر أحداً في شيء في أنها تستمتع بمشهد بائعة الحليب والأولاد ورائحة الفول الساخن وزحمة الناس والرجال في الحارة".
في هذا المقطع من رواية الكاتبة مها حسن التي وصلت قبل أشهر للقائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ، التي تنظمها الجامعة الأميركية في القاهرة، يتجلى مغزى عنوانها "حي الدهشة" (دار سرد)، كناية عن "حي الهلك" في حلب. كأن مها من مهجرها الفرنسي اختارت عبر معظم أعمالها أن تستبقي مدينتها الأم نصب عينيها، وتوثق الذكرى عبر سطورها. اتخذتها فضاء مركزياً مثلما فعل نجيب محفوظ مع مسقط رأسه في حي الجمالية.
وإن كانت روايتها لا تستغرق في جغرافية الحي، ولا تبدو الساردة مولعة بالوصف إلا في حده الأدنى، مقارنة مع تدفق الحكي، تُفتتح الرواية بمقطع يقول، "يزعم الحلبيون بأنه سمي بتراب الهلك، لأنه تراب من هلك في طوفان نوح". بعدها لا يوجد استقصاء يجعله حياً مختلفاً عن أي حي آخر في حلب أو سوريا. مجرد "فضاء شعبي" يتيح إطلاق برنامج سردي. كذلك لا ينغلق السرد خلف أسوار الحي، بل يمتد إلى أماكن أخرى، مثل "كفر حمرا بريف حلب" و "حي الشهباء الجديدة" و"الزربة في الريف" "حي بطينا بيروت" ولندن وتركيا.
غراميات ومكائد النساء
ثمة حكاية مركزية تقع بالكامل داخل حي الهلك بين عامي 2005 و2011، تطرزها تفريعات ثانوية تتأرجح ما بين سبعينيات القرن الـ 20 إلى ما بعد الثورة والحرب. حكاية تذكرنا بأجواء مسلسل "باب الحارة"، من حيث التقاليد الشامية المتعلقة بالأكل وطقس القهوة والولائم والتباهي الطبقي والثنائيات العاطفية والدسائس والصدود ومكر وحيل النساء. تبدأ القصة بغرام "سميرة" و"عبدالغني"، على الرغم من معارضة الأبوين الشقيقين لهذه الزيجة، بسبب خلاف على إرث.
ثم ذات يوم اتهم عبدالغني سميرة بأنها لم تنتبه لعودته كعادتها، وكأنها نسيت حبه، فلم تتحمل الزوجة التهمة وماتت كمداً تحت وطأة شعورها بالذنب على مرأى من ابنها الصغير حسين.
بعدها تترك الساردة تلك الحكاية معلَقة حتى نهاية الرواية تقريباً، ليقفز الحكي بنا خمس سنوات مع الشخصية المحورية "هند" طبيبة النساء، الجميلة، ابنة الأسرة المقتدرة التي اختارت "حي الهلك" لافتتاح عيادة تخدم النساء الفقيرات.
اختيار كاشف لطبيعة الصراع الطبقي، أثرياء وفقراء، وكاشف أيضاً لصراع "الحداثة" مع قيم العصور الوسطى. تبدأ بوادر إعجاب بين "هند" الطبيبة بنت الأثرياء، و"شريف" الحداد الشهم ابن البسطاء والذي يعول أمه وشقيقاته عقب وفاة الأب. في القصة الأولى صدى لروميو وجولييت، وهنا صدى آخر لدراما "أخو البنات"، فدائماً ثمة صدى لأنماط حكايات معروفة ومشوقة.
تنضم قصة ثالثة عن الجارة "سعاد" اللعوب المغوية التي تعيد تجميع خطوط القصص من زاوية أخرى، فهي تبتز فحولة "شريف" وتوقعه في شباكها، وترتبط بابن عمها عضو المافيا على الرغم من عدم إعجابها به، وتكن مشاعر حقيقية تجاه قريبها "حسين" الأصغر منها سناً والذي يعمل لدى "شريف"... "كانت سعاد من ذلك النوع من النساء اللواتي يعتقدن بأن أنوثتهن تقاس بدرجة تعذيب الرجال".
ثم قصة رابعة عن "نجوى" أخت "شريف" التي تحب جارها "فؤاد" ومع ذلك تردعه علناً حين يغازلها، وتتسبب له في الضرب والفضيحة على يد أخيها. وقصة خامسة عن "مديحة" يتيمة الأم التي تربت في بيت خالتها "درية" وتزوجت ابن خالتها "شريف" لكنها حقود وغيورة، لا تتردد في سرقة وتمزيق فستان الدكتورة هند.
حتى هند المتأثرة بأفكار نوال السعداوي، والتي تردد شعارات مثالية، ليست مثالية. بل مثل الأخريات، أحبت أستاذها وتزوجته على أمل الإنجاب، وعندما لم يحدث تطلقت وتزوجت شاباً إنجليزياً، وللسبب نفسه انفصلت عنه، ثم انجذبت إلى رجولة وشهامة "شريف". وبذلت الساردة جهداً كبيراً لتبرير إعجاب هند واقترابها من رجل متزوج، بينما لم تتردد في إدانة الزوجة "مديحة" التي تسعى للحفاظ على رجلها!
خطاب نسوي
هكذا هناك سلسلة معقدة من الغراميات، ومكائد النساء، وعلى الرغم من محاولة الساردة، وكذلك البطلة "هند" تبني خطاب نسوي حول اضطهاد المرأة وحرمانها من الإرث والتعليم وإبداء الرأي، لكن تأملاً بسيطاً في المآلات يكشف أن هذا الخطاب يجر تناقضه معه. فعائلة شريف تديرها "الأم" بالمطلق، وأخته "نجوى" تتحكم في زوجها، و"سعاد" تتلاعب بالجميع، وهند تسخر للرجال لرغبتها في الأمومة. حتى عندما أرادت الحارة التخلص منها لم تلجأ إلى الشرطة، بل إلى الداية القوية صاحبة النفوذ "مجيدة"، "أما مجيدة فهي امرأة لا تتكرر كثيراً. استطاعت خلال سنوات قليلة أن تخلق إمبراطوريتها الخاصة، عبر عدد من الأبناء والبنات والأصهار والكنات والأحفاد، وصل عددهم ما يقارب 50 شخصاً، كانوا جميعاً تحت إمرتها".
وعندما يُغلق الحكاية الأولى الخاصة بسميرة وعبدالغني بظهور "ميرنا"، يتضح أن هذه الشابة الفاتنة هربت من أهلها مع عشيقها، وتزوجته في بيروت لكنه مات فجأة، فعادت لأسرتها أملًا أن يسامحوها لكن الأم رفضت، فاستطاعت بجمالها ودموعها أن تقنع "عبدالغني" بالزواج منها. وعندما قتله ابنه لاحقاً تواطأت بالصمت ورضيت بطفلها وميراثها منه. فهل "ميرنا" هنا امرأة ضعيفة مضطهدة؟
إن الخلاصة الحزينة لهذه الحكايات المتبلة جيداً تدفعنا للإشفاق على ضعف وسذاجة الرجال، بمن فيهم "حسين" الذي خبأته الساردة كورقة أخيرة لربط خطوط القصص، فهو من استنتج أن وفاة أمه تُعتبر قتلاً معنوياً، وأصدر حكم إعدام ضد أبيه البيولوجي، وبالمنطق نفسه رأى في "هند الطبيبة" التي تزوجت مرتين وتقربت من رجل متزوج ملاكاً، ومن أجلها دبر قتل أبيه الروحي!
فنحن لسنا أمام رواية عن نساء يقتلن بدافع عن الشرف، بل عن رجال يُضربون ويُقتلون على يد رجال آخرين، كانوا ألعوبة في يد امرأة ما!
تكنيك السرد
مثلما يثير "فضاء الحارة" تناقض الخصوصية والعمومية، يعزز الخطاب النسوي تناقض الضعف والقوة، ثم يأتي تكنيك السرد ليضيف مفارقة ثالثة، بالكشف عن هوية الساردة في النهاية وهي "درية" ابنة القتيل "شريف"، والتي لا تجد غضاضة في التواصل مع "حسين" من دبر قتل أبيها!
وعلى الرغم من أن معظم مقاطع النص اعتمدت على الراوي "العليم" والتبئير الداخلي وتحليل تاريخ الشخصيات ومكنون صدورها، إلا أن النهاية تزيح قسراً ذلك الراوي العليم، وتُصدر لنا شخصية ثانوية باعتبارها الساردة، تُشكل امتداداً للبطلة "هند" التي ربتها وشجعتها على قراءة الروايات ودرس الطب مثلها.
فكيف يستقيم كل هذا الحكي "الجواني" وكل هذا الفيض من المعلومات والأسرار، مع تكنيك السارد المحدد "البراني"، والقابع على هامش الحكاية؟
ثمة سؤال آخر لا بد أن يطرح نفسه، هل اتكاء الساردة على عنونة مزدوجة تارة بالإشارة إلى الفضاء المكاني، "حي الهلك" غالباً، وتارة بالإشارة إلى عناوين روايات عربية وأجنبية، كان خياراً جمالياً أم مجرد نزعة استعراضية بربط النص بنصوص شهيرة جداً؟
ما يزيد على 60 رواية، منها "الحرب والسلام" و"أولاد حارتنا" و"الصخب والعنف" و"حفلة التفاهة و"حفلة التيس"، و"عرس الزين" و"دون كيشوت"، كلها وضعت موضع التناص مع حكايات "حي الدهشة" لتبدو كأنها "رواية كل الروايات".
هل سيحتاج القارئ للاطلاع على هذه الروايات الـ 60 لفهم المقاطع التي عُنونت بها؟ لا أظن. فهي كانت حلية تزيينية لا أكثر، لو حذفت لن يؤثر الأمر كثيراً في استيعاب "حي الدهشة"، فحتى المقاطع احتفظت بالأداء اللغوي ذاته، ولم تتنوع بتنوع أساليب كل هؤلاء الكتاب الذين جرى استدعاء رواياتهم، بمعنى لا يوجد حوار جدّي مع لغاتهم ولا تقنياتهم ولا عوالمهم، مجرد إشارة مبتسرة تستلهم العناوين، ولو اكتفت الساردة بتدوير اللعبة بعنونة الأماكن ما نقصت الرواية كثيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لعنة الحرب
أمسكت لعنة الحرب بكل نصوص مها حسن الصادرة في آخر 10 سنوات، كأنه بات مقرراً على كل رواية أن تخبرنا شيئاً عن الحرب والثورة المغدورة، وبينما تلملم الساردة خيوطها، وقتت ذلك كله باندلاع الحرب، لكن لم يكن هناك جديد يُقال. ليس ثمة تحليل يمثل إرهاصات لما وقع عام 2011، لا مقارنة بصرية تبين حي الهلك قبل وبعد هذا التاريخ المأساوي. جاءت الحرب مثل حلية تزيينية أخرى، حتى سفر "درية" الساردة إلى لندن، كان مقرراً بين "هند" و"شريف" من قبل وقوعها، ولم يكن بسبب النزوح الكبير الناتج منها.
اعتمدت مها حسن على لغة بسيطة كثيفة، وعلى براعة فائقة في نسج الحكايات ونكثها على طريقة بينلوبي التي انتظرت أوديسيوس بحيلة نسج الثوب ونكثه لإبعاد الخاطبين عنها، فهي تعلق حكاية مشوقة جداً لتدفعنا نحو حكاية أخرى، وكل شخصية مهما كانت ثانوية، لديها حكاية تستحق أن تُروى.
هكذا دفعتنا الكاتبة إلى اللهاث من حكاية إلى أخرى، مع توفير كل المشهيات من غرام وانتقام ورسم الشخصيات والمشاهد، فمثلاً عندما يذهب "شريف" للمرة الأولى إلى الدكتورة هند لعلاج أمه المريضة، لا يكتفي بإجبارها على الذهاب معه، بل يحملها فوق كتفه على مرأى من الجميع، في مشهد رومانسي لا يخلو من ملمح إيروسي، وإنجاز الدهشة والتغريب. لكن مع اللهاث وراء متعة الحكاية، وهذا حق، كان المعنى يخفت، وأحياناً يتناقض.