ليس جديداً أن يخرج السفراء في بيروت على التقاليد الدبلوماسية. ولا خارج المألوف أن يطلب اللبنانيون من السفراء التدخل في الشؤون الداخلية. حتى الكتابات الصحافية عن السياسات والأزمات في لبنان، فإن معظمها يتركز على ما يهمس به الدبلوماسيون في المجالس الخاصة وما ينقله عنهم السياسيون اللبنانيون. لا بل إن اليأس من أن تتوقف المافيا الحاكمة والمتحكمة عن دفع لبنان إلى الانهيار والحد مما تسميه حنة أرندت "تفاهة الشر" يقود كثيرين إلى المطالبة بنوع من "الانتداب الدولي" على لبنان. ومتى؟ بعد ثلاثة أرباع القرن من "الاستقلال" بطبعتيه الأولى والثانية، بدل الثورة من أجل استقلال ثالث وبناء دولة. وهذه قمة البؤس السياسي. واللافت في ما وصلنا إليه، لا التسليم بما هو مرفوض في البلدان التي تحترم نفسها فحسب بل اعتبار أن خروج السفراء على القواعد التي ينظمها اتفاق فيينا أمر جيد أيضاً. هكذا قرأنا المقال اللاذع الذي ودع به لبنان القائم بالأعمال البريطاني مارتن لنغدن بتعرية الطبقة السياسية من فوق إلى تحت. وهكذا كان الانطباع بعد رد السفراء وجهاً لوجه على رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب الذي جمعهم في السراي ليستمعوا إلى خطاب "توبيخي" انقلب عليه وعلى كل المسؤولين.
ذلك أن الكل يعرف لماذا يصر الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله على مهاجمة أميركا والسعودية وربط الانهيار الاقتصادي والمالي والاستعصاء السياسي في تأليف الحكومة بما يسميه "الحصار الأميركي". فهذا فصل دائم في "البروباغندا" الأيديولوجية في معركة إيران ووكلائها مع أميركا التي خدمت حكم الملالي بغزو أفغانستان والعراق وإسقاط عدوين له، ثم صارت عقبة أمام المشروع الإمبراطوري الإيراني بنسخة مذهبية. ومن أهدافه طبعاً تغطية المسؤولية التي يتحملها "حزب الله" عن تحميل لبنان أثقال المشروع الإيراني والمشاركة في حرب سوريا وحرب اليمن وصراعات العراق. فضلاً عن العداء لدول الخليج التي هي العمق الاقتصادي للبنان وأبنائه العاملين هناك، كما أنها اليوم قاطرة العمل العربي. والواقع أن بين ما صار يعرقل الدعم العربي والدولي للبنان هو إمساك "حزب الله" بالسلطة من خلال حلفائه وتفرده بدور "المقاومة" من دون مقاومة، وقرار الحرب والسلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن المفاجأة جاءت من رئيس حكومة تصريف الأعمال الفاشلة بكل المقاييس. فالدكتور دياب، الأستاذ السابق في الجامعة الأميركية، دعمته قوى 8 مارس (آذار) التي يقودها "حزب الله". وهو استغاث بالسفراء في اجتماع غاب عنه السفيران السعودي والإماراتي، وقال كلاماً معقولاً ليصل إلى كلام لا معقول ولا مقبول. حذر من أن انهيار لبنان الوشيك له "تداعيات خارج جغرافيا لبنان". وربط استقرار المنطقة بالاستقرار في الوطن الصغير. لكنه ادعى أن العالم "يعاقب لبنان" وردد خرافة "الحصار" الدولي عليه. ولم يكن من السهل على سفيرتي الدولتين الأكثر دعماً للبنان تقبل ما تسمعانه من دون رد فوري من النادر أن يتفوه به سفير أمام رئيس حكومة. السفيرة الفرنسية آن غريو قالت بصراحة "هذا الاجتماع محزن ويأتي متأخراً، فالأزمة نتاج سوء إدارة وفساد استمر عقوداً وليست نتاج حصار خارجي، فأنتم تحاصرون أنفسكم بعدم تشكيل حكومة. والمسؤولية تقع على الطبقة السياسية وليس على الدول". ثم أعادت التذكير بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار بيروت مرتين بعد انفجار المرفأ، وقدم خريطة طريق "لم تأخذوا بها ولم تقوموا بأي إصلاحات ولا أوقفتم النهب". والسفيرة الأميركية دوروثي شيا قالت "نحن لا ننتظر من أحد أن يطلب منا المساعدة، لأننا نساعد الجيش والمجتمع المدني. والحكومة تتحمل المسؤولية لأنها لم تساعد نفسها ولم تنفذ البرنامج الإصلاحي، والسلطة السياسية لم تشكل الحكومة". أما السفير الكويتي عبد العال القناعي، فإنه ذكّر بأن "الدول العربية لم تقصر" في حق لبنان. والكويت "رعت مشاريع يمولها الصندوق الكويتي والصندوق الإسلامي، وعرضت مساعدات لتأهيل الكهرباء من دون تجاوب".
والكل يتذكر أن الدكتور دياب رمى تهمه الجهل السياسي بلبنان على وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، وهو المحب الكبير له، والذي انضم إلى ماكرون في توبيخ السياسيين اللبنانيين. وحين التقى وزيرا الخارجية الفرنسي والأميركي، أخيراً، في باريس، فإن أنتوني بلينكن أعلن "الاستعداد لمساعدة لبنان". لكننا نحتاج إلى "قيادة حقيقية" في بيروت. أما البابا فرنسيس الذي جمع بطاركة الشرق في يوم صلاة وتفكير من أجل لبنان، فإنه لم يكتم القول "لبنان الحبيب لا يمكن أن يُترك رهينة الأقدار أو الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة".
وليس أقبح من ارتكاب المسؤولين الخطايا في حق لبنان واللبنانيين سوى التمسك بالخطايا وتحميل المجتمع الدولي المسؤولية عنها ودعوته إلى قراءة الندامة.