تتعمق رواية «مَسكَرا» في التضاريس المظلمة للهوية الإنسانية، ففي حياة أبطال العمل الثلاثة، هناك رجل مجهول لا وجه له، يتميز بالقدرة على رؤية الحقائق الوحشية داخل أي شخص يصادفه ويصوره. وهناك أوريانا، وهي امرأة جميلة يفترض أن ذاكرتها توقفت عند الخامسة من عمرها، ويلاحقها ماض مجهول بعد تعرضها للاغتصاب وهي طفلة صغيرة. والشخصية الثالثة هي الدكتور ميرافيللي، وهو جراح تجميل لامع ومتعطش للسلطة، يسيطر بعمليات التجميل على شخصيات السلطة والمجتمع من خلال إعادة تشكيل وجوههم.
تُعد رواية «مَسكَرا»، التي نُشرت أول مرة بالإسبانية في الأرجنتين، وبالإنجليزية في عام 1988، رواية صعبة محكمة الإنشاء. فأحداثها الزمنية، على وجه الخصوص، معقدة وتسبب الدوار. وموضوع القصة التي اشتغل عليها الكاتب آرييل دورفمان مشوقة للغاية، ففي يوم ما، من سنة 1973، يَدْهم أفراد من رجال شرطة الجنرال أوغستو بينوشيه منزلاً قائماً في مدينة سانتياغو في تشيلي، وفي أثناء سير الدهم يرتكبون عملاً أخرق بحق طفلة تدعى أوريانا يرتقي إلى الاغتصاب. وكنتيجة لفعلتهم، تبدو هذه الفتاة كما لو أنها أصبحت تعاني من توقف النمو العقلي، فتبقى مجمدة في طفولتها، على الرغم من أن جسدها يستمر في النمو على نحو طبيعي.
فجوة زمنية
بعد ذلك، نجد أنفسنا في هذه الرواية (دار نينوى- دمشق) أمام فجوة زمنية، وهو ما سنعرفه لاحقاً عبر فصول الرواية الأربعة، وهو أن امرأة تدعى باتريسيا ستحضر الطفلة أوريانا إلى ما يفترض أنه منزل آمن. المنزل الذي يملكه كائن غريب، وبالأحرى رجل وُلد بلا وجه، وتالياً، كان شبه خفي، وبما أنه بلا وجه، لا يعني أنه مصاب بتشوه خلقي، كما هو موجود في الكتب الطبية، فالأمر في الرواية يبدو عَدَمياً، أي أنه غير موجود في أصله.
هذا الرجل العديم الوجه، الذي لم يُذكر له اسم إطلاقاً، يقدمه لنا الروائي الأرجنتيني المولد والتشيللي الجنسية، بأنه عانى من طفولة بائسة. فوالداه كانا عضوين ناجحين من أبناء الطبقة الوسطى، لنعرف أن أباه كان يبيع أدوات جراحية من شأنها أن تمكن الأطباء من اكتشاف دواخل الأجسام. وكانت أُمه فنانة مكياج تعمل على تزيين وجوه الإعلاميين، وقد أهملاه حتى أنهما لم يحسا بوجوده بينهما معظم الوقت. ولما كان هذا الشاب صغيراً، نما لديه شغف بالتصوير وجد فيه متعة جنسية، ففي الوقت الذي كان فيه الجنس العادي يملؤه بالقرف، كان التقاطه لصورة يفضي به إلى النشوة.
ومع مرور الوقت، تسيطر على هذا الرجل العديم الوجه، الذي لم يعره أحد اهتماماً على الأصعدة كافة، روح شريرة. فقد تخلى عن توقه العابث لأن يكون مرئياً وجزءاً من العالم الاجتماعي، وعوضاً عن ذلك بدأ يتقبل فكرة كونه خفياً، والقوة التي يمنحها إياه هذا الخفاء. مثله مثل شخصية إياغو في مسرحية شكسبير، لتجده يقول ما معناه الآن، «أيها الشر: كن الآن خيري». وفي الوقت الذي تدخل فيه أوريانا حياته، كان يشغل وظيفة عامل أرشيف في إدارة حوادث المرور، وظيفة كان يستفيد فيها من ذاكرته الخارقة لتذكر الوجوه، ومجموعة الصور الفاضحة التي التقطها، وتهديدات الابتزاز، ليكون بذلك شبكة سرية قوية.
وبغية تحديد مكان أوريانا الناضجة، والقضاء عليها، يعمل الرجل العديم الوجه على البحث عن صورة لها في أرشيف الدولة، لكن الطبيب الجراح ميرافيللي يسبقه بخطوة، إذ إنه كان قد اخترق شبكته، واستولى عليها، ومنعه من الوصول إلى الأرشيف، مستعيناً بما تبقى له من مصادر، ليتمكن الرجل عديم الوجه من سرقة صورة أوريانا من ملفات الطبيب ميرافيللي الخاصة به. لكن الصورة لا تفيده في شيء، لنكتشف أنها تُظهر طفلة في عمر الرابعة. لكن من يكون ميرافيللي هذا؟
الطبيب المريض
تقودنا الرواية التي نقلها إلى العربية المترجم السوري عهد صبيحة، إلى شخصية طبيب التجميل الغرائبية أيضاً، وكيف صنع ميرافيللي ثروته من العمل الجراحي على وجوه الأغنياء، فقدراته عجيبة تقريباً كما يصورها لنا دورفمان. وحينما يموت أشهر مريض عنده، يقوم ميرافيللي بنقل وجه هذا المريض إلى جسد رجل أصغر منه سناً، متمكناً بذلك من الحفاظ على المهنة السياسية لهذا المريض المشهور إلى الأبد، ليلتقي بعدها ميرافيللي الرجلَ العديم الوجه، حين كان هذا الأخير رضيعاً، وأدرك حالاً أنه، من طريق هذا الرضيع، سيتسنى له أن يحصل على قوة مطلقة، ليستخدم هذا رجلاً بلا وجه كمصدر للخلايا الجلدية، وذلك ليعمل لاحقاً على صهرها على وجوه أخرى، وبذلك يجعلها مخفية إلى الأبد.
وباستخدام هذه الحيلة، يتمكن الرجل العديم الوجه حتى الآن من الهروب من ميرافيللي. ويطرأ بعدها حدث مشؤوم، إذ يشاء القدر أن يلتقي الرجل العديم الوجه وميرافيللي في حادث سير، ويقرر هذا الأول حينها، وفي عجلة من أمره كما يبدو، أن يقاضي الثاني، ويستخدم شهرة المحكمة كوسيلة لفضحه. وبمساعدة أوريانا، التي لفت وجهها بالضمادات، سيتمكن من دخول عيادة الطبيب الجراح ميرافيللي، ونسخ قوائم مرضاه، والتقاط صورة لميرافيللي، مصاص الدماء، وهو يُجري عملية يزرع فيها أداةً عجيبة صغيرة داخل وجه مريضه الذي أجرى له الجراحة لتوه، ليهدد بعدها بنشر هذه الصورة ما لم يمتثل ميرافيللي لطلبه بزرع إحدى أدواته داخل أوريانا، التي من شأنها أن تجمدها في حالتها الطفولية هذه إلى الأبد.
وبناءً عليه، يوافق ميرافيللي على لقاء الرجل العديم الوجه، وهو الذي تكمن خطته السرية في الاستحواذ على وجه رجل بلا ملامح، وفي أن يخفي نفسه، وقبل لقائهما بقليل، يخط الرجل العديم الوجه كلماته الأخيرة، كما يتضح لاحقاً، الكلمات التي تشكل أحداث الجزء الأول من رواية «مَسكَرا». وعن اللقاء وما دار فيه، لا نعلم إلا ما تيسر، وعلى نحو غير مباشر، في إثر التحقيق الذي أجراه محققان مع سكرتيرة ميرافيللي. التحقيق الذي سيشكل خاتمة الرواية، لنكتشف أن الرجل العديم الوجه مات فعلاً على طاولة العمليات في عيادة ميرافيللي، لكنه مات بعد أن ارتسمت ابتسامة على وجهه (لهذا مات وعليه وجه). أما جسده فقد اختفى بعد أن تخلص منه العاملون تحت إمرة ميرافيللي.
دولة بوليسية
تدور أحداث رواية «مَسكَرا» في دولة بوليسية من النوع التشيلي، أو الأرجنتيني، وتعج برجال الشرطة السريين، واللصوص، وشبكات المخبرين، وحوادث موت ملغزة، واختفاءات قسرية وسط إعلام خانع. ويتضح لنا من ملخص الرواية التي قدم لها الكاتب الجنوب أفريقي "ج م كوتزي" مصدراً شخوص الرواية بأنهم ينتمون إلى أنواع أدبية شعبية كقصص الرعب، والتشويق، والرومانسية الخيالية. فقد كان دورفمان رائداً في أميركا اللاتينية في تفكيك الثقافة الشعبية المستوردة، ولاسيما القصص الأسطورية التي تجذرت في مصانع الثقافة في الولايات المتحدة الأميركية، فروايته ذات التأثير الواسع "كيف لك أن تقرأ دونالد داك" أول ما نشرت في تشيلي في عام 1971.
في هذا العالم الفانتازي، والسريالي الذي يحيط برواية «مَسكَرا»، ويعكس الحياة الخفية السريالية للعالم المعاصر، تكمن عناصر المتعة في عملية الانتقال ما بين الأعضاء التناسلية والعيون والدماغ. وبهذه الطريقة يجسد كل من الرجل عديم الوجه، الذي تأخذه الصور إلى حالات ارتعاش عالية، والطبيب ميرافيللي، الذي يسر بالنظر إلى أجساد مرضاه وهي فاقدة الإحساس، يجسد كل منهما النزوع نحو متعة النظر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
«مَسكَرا» هي الرواية الرابعة في مسيرة كاتب يتقن لغتين، كان له فضل كبير على الأدبين الإسباني والإنجليزي. إذ قضى آرييل دورفمان، الذي ولد في الأرجنتين عام 1942، لأبوين مهاجرين يهوديين، بعضاً من طفولته وشبابه في الولايات المتحدة الأميركية، وبعضاً منها في تشيلي، ويعزى تنقله المستمر هذا إلى موجات متتالية من الاضطهاد الذي مارسه اليمين المتطرف في بلاده.
وما إن بدأ دورفمان بمهنة الكتابة، أُجبر على النفي خارج البلاد في إثر الانقلاب الذي نفذه بينوشيه. ظهرت روايته الأولى، التي أخذت عنها النسخة الإنجليزية المنقحة بعنوان "مطر قاس" 1973. أما رواياته الثلاث التي تلت، فقد كتبها في المنفى وهي، "أرامل" 1981، و"الأغنية الأخيرة لمانويل سينديرو" 1982، و"مَسكَرا" 1988. يركز دورفمان في معظم أعماله على الرعب من الاستبداد، وعلى محنة النفي. كما هي الحال في أشهر مسرحياته "الموت والعذراء" 1990، التي تصور لقاءً بين ضحية تعذيب سابق مع جلاد تعتقد أنه من عذبها، والمسرحية حولت في عام 1994 إلى فيلم شهير أخرجه رومان بولانسكي، كما حصلت على تقدير عالمي وعرضت في معظم مسارح العالم.