دخلت السلطة الفلسطينية في لقاءات ومناقشات مع الحكومة الإسرائيلية الراهنة بتوجيه من الرئيس محمود عباس ومن خلال عدد من أعضاء حكومة أشتية، ما يشير إلى أن السلطة ستنتقل من متابعة ما كان يجري في قطاع غزة، ولو بصفة مراقب ومتابع إلى استئناف الاتصالات بصفة المسؤول الأول عن الضفة والقطاع بمقتضى اتفاقيات أوسلو وباريس. ومن ثمّ فإن الأجواء الفلسطينية الإسرائيلية مرشحة بقوة إلى مزيد من التقارب الذي يجري وراء ستار وتشبه أجواء ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو.
دوافع السلطة
بدأت بالفعل مفاوضات لتشكيل لجنة مشتركة (إسرائيلية – فلسطينية) للترويج للقضايا الاقتصادية، وإزالة الحواجز التي من شأنها تسهيل النشاط الاقتصادي للسلطة بحيث يقود وزير التعاون الإقليمي عيساوي فريج من حزب ميرتس، هذه المحادثات وينسّق خطواته مع كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية، وعلى رأسهم وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ. ومعلوم أن الوزير فريج يترأس بنفسه اللجنة من الجانب الإسرائيلي ومعه وزراء آخرون لم يُعلن عن أسمائهم بعد، في حين لم يُحدد من سيكون ممثلاً عن السلطة الفلسطينية في هذه المفاوضات المتخصصة، التي تركز على البعدين المالي والاقتصادي بالأساس.
وتسعى السلطة الفلسطينية إلى اكتساب واقع سياسي واستراتيجي جديد بمقتضى ما يجري، بخاصة مع ابتعادها عن المشهد الراهن طوال فترة ما بعد المواجهات الأخيرة، وانفراد حركة "حماس" بإدارة ما يحدث. ومن ثم فإن السلطة رأت أن تقترب من إدارة المشهد السياسي من خلال إعادة التقارب مع الحكومة الإسرائيلية وهو ما بدأته شخصيات نافذة ووازنة فيها، ومن رجال الرئيس محمود عباس (الدائرة الضيقة جداً) الذين ضغطوا بهذا الاتجاه على اعتبار أن المشكلة الأساسية كانت في شخص رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (بنيامين) نتنياهو، وبرحيله حصل التقارب وبدأت قنوات الأمن والاستخبارات تقوم بدورها وليظهر اسم ماجد فرج في واجهة ما يجري وتحت إشراف ضباط من الاستخبارات المركزية الأميركية، وسبق ذلك عقد سلسلة من اللقاءات الأمنية في رام الله وواشنطن وتل أبيب، ما أكسب الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية حضوراً وأهمية كبيرة.
يشار في هذا الإطار إلى أن السلطة تسعى إلى تجديد شرعيتها السياسية، وإعادة لمّ شمل الفلسطينيين في رام الله وقطاع غزة بعد فشل تجربة حركة "حماس" في الانفراد بإدارة المشهد، ورفض تشكيل حكومة فلسطينية جديدة والتمسك بدخول منظمة التحرير الفلسطينية مع حركة "الجهاد" وفقاً لنظام المحاصصة، بما يعني أن تكون البديل الرئيس عن حركة "فتح"، كبرى منظمات التحرير، ما دفع عباس إلى تجديد مسارات التحرك الحقيقي، وتجاه إسرائيل في ظل إدارة جديدة تشمل كلاً من نفتالي بينيت ويائير لبيد، وكلاهما معروفان جيداً لدى السلطة ولحكومة تضم "كل إسرائيل" من أحزاب باستثناء "ليكود"، ما يجعلها في قلب المشهد السياسي الراهن بصرف النظر عن مخطط تصدير الأزمات التي تعمل عليه المعارضة الإسرائيلية ممثلة في "ليكود"، ونتنياهو شخصياً، ولهذا عمل رئيس الوزراء الفلسطيني أشتية على التحرك تجاه استئناف الاتصالات مع تل أبيب رسمياً، بخاصة أن القائم بأعمال السفير الأميركي لدى إسرائيل مايكل راتنيير على مقربة مما يجري.
وجاء وعد واشنطن بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية وإعادة فتح مكتبها في واشنطن ليقرّب من وجهات النظر بين الجانبين، ما يمكن اعتباره المدخل الرئيس لتحقيق مصالح كبرى للسلطة في الفترة المقبلة، في ظل عدم وجود فرصة جديدة لإجراء انتخابات تشريعية، أو رئاسية والاستمرار في الموقف الراهن بمعنى بقاء المشهد في الضفة كما هو، وسعي حركة "حماس" لتحقيق مكاسب جديدة في القطاع وسط انتظار إتمام صفقة تبادل الأسرى في الفترة المقبلة، وجني ثمار ما حصل في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، الأمر الذي يحتل أولوية فلسطينية لدى قادة الحركة، خصوصاً أن هناك صراعاً حقيقياً بين المكتب السياسي الخارجي والمستوى الداخلي.
مع ظهور خالد مشعل إعلامياً وسياسياً أخيراً، تبدو الرسائل الموحية مهمة ومباشرة في ظل تغيّر الأولويات لدى الحركة، ما سينعكس على الوضع الفلسطيني وسيؤثر في العلاقات مع حركة "فتح" وفي ظل انحسار دور المصالحة الفلسطينية الشاملة بحيث لا تريد مصر وقطر التورط في ترتيبات سياسية جديدة والاكتفاء ببقاء الأوضاع على ما هي عليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موقف إسرائيل
تحتاج حكومة (بينيت – لبيد) إلى حالة من الاستقرار، وتهيئة الأوضاع لمزيد من الثبات السياسي العام، ما سيكون عنواناً للمرحلة المقبلة والرهان على الاستمرار، وأيضاً على رأس الأولويات للحكومة الحالية تخوفاً من أي تغيير محتمل ووارد بصورة شاملة في ظل التربص بها من داخل الكنيست مع احتمال التوجه إلى إسقاطها عند مناقشة موضوع الموازنة السنوية.
بالتالي، فإن الحكومة لديها سيناريوهات مباشرة في التعامل مع الداخل، وفي التوقيت ذاته لديها مصالحها في الانفتاح على السلطة الفلسطينية، وتأمين جبهتها من خلال التجاوب مع طرح السلطة العمل معاً وفقاً لاستراتيجية مصالح مشتركة وفوائد متبادلة، وهو شعار الوضع الراهن في الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي دخلت في اتصالات ولقاءات سياسية وأمنية غير معلنة وعبر شبكة لجان الارتباط ومكاتب التنسيق الأمني، وعبر وجوه قيادية في السلطة، مما يؤكد توافر الإرادة السياسية لدى الجانبين، ومما سينعكس على إدارة المشهد بأكمله، ويؤدي إلى مزيد من التقارب بحيث تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيق التهدئة في الضفة، ودعم الرئيس عباس وعدم إسقاطه، إلى جانب التماشي مع طرح الإدارة الأميركية بالانفتاح على السلطة ودعم وجودها، تخوّفاً من سيطرة حركة "حماس" على المشهد الفلسطيني العام في ظل ما يجري، ومسعى الحركة لإدارة المشهد من أعلى، وأن تكون بديلاً عن السلطة وسط رفض عدد من الوجوه فيها الانضواء في حكومة وحدة وطنية حقيقية، وهو أمر مستبعد أو شخصيات محسوبة على الحركة كي لا تصطدم بأي تحفظات أميركية أو إسرائيلية، الأمر الذي تعمل عليه الحكومة الإسرائيلية جيداً ويمضي في سياق سياسي واستراتيجي محدد ووفق رؤية شاملة.
في إطار ما يحدث، ستعمل اللجنة المشتركة الفلسطينية الإسرائيلية وفق برتوكول باريس الملحق الاقتصادي لاتفاقيات أوسلو، الذي ينص على أن تتألف اللجنة المشتركة من عدد متساوٍ من الأعضاء من الجانبين، ويسمح لكل جانب بطلب عقد اجتماع لرصد أو مناقشة الصعوبات الناشئة حول عدد من القضايا الاقتصادية المكرسة في البروتوكول أو الترويج لقضايا متعلقة بالمشاريع السياحية والتنمية الزراعية والإشراف البيطري والصناعة، خصوصاً أن الاتفاقية الأصلية أعطت اللجنة مكانة كبيرة، ومن بين تلك الأمور سمحت لها بفحص إمكانية إدخال عملة فلسطينية.
وتريد الحكومة الإسرائيلية الحالية تطويع مصالحها انطلاقاً من حسابات سياسية واستراتيجية مع السلطة، ولا ترغب بالتراجع عن تفاصيلها، بخاصة أن هناك وجوهاً حكومية مهمة في ائتلاف بينيت - لبيد تدعو إلى دعم السلطة الفلسطينية، والإبقاء عليها في موقعها، إلى جانب عدم تركها تعمل في الفراغ السياسي تخوفاً من الذهاب إلى خيارات صفرية في حال رحيل عباس، أو الصراع على خلافته، مما يكلف إسرائيل ربما الكثير في ظل استئناف الاتصالات الأمنية والاستخبارية على أعلى مستوى بين الجانبين، ومما قد يؤدي إلى نتائج مهمة، بخاصة أن استعادة روح أوسلو باتت أمراً مهماً ومطلوباً لدى دوائر جهاز الشاباك، تحديداً. ويمكن أن يؤدي إلى نتائج مهمة بالنسبة إلى استقرار الأوضاع على الجانبين وهو ما يريده الجانب الإسرائيلي من علاقاته بالسلطة الفلسطينية والعمل على تهيئة الأجواء لاستئناف الاتصالات مع الإدارة الأميركية بالأساس، بخاصة أن فريق الشرق الأوسط في إدارة الرئيس جو بايدن أوصت فعلياً بالاتجاه إلى خيارات توافقية وتحريك المشهد التفاوضي ودعم السلطة الرسمية، وهو ما تضعه الحكومة الإسرائيلية في تقييماتها السياسية الراهنة، خصوصاً أن بايدن نفسه يعمل على دعم استمرار الائتلاف الراهن الذي يترسخ بالتناوب بين بينيت وليبد معاً.
السيناريو المتوقع
في إطار ما يجري وراء الكواليس الفلسطينية الإسرائيلية يمكن استشراف الوضع الراهن والمنتظر فلسطينياً على اعتبار أن الأمر مرتبط بتوجهات الرئيس عباس ورفاق "فتح"، ورؤية قيادات أجهزة الأمن والاستخبارات، وحرس الرئيس إضافة إلى بعض الشخصيات السياسية والأمنية في الحكومة، التي تعمل تحت إشراف أشتية نفسه، ولها توجهات مختلفة في التعامل والطرح.
سيستمر التصور الإسرائيلي إذاً مرتكزاً على مشاهد حقيقية تؤكد أن تل أبيب في حاجة إلى استقرار حقيقي وليس هشاً، مما يشدد على أن الحكومة ستعمل على إحداث مزيد من التقارب السياسي والأمني مع السلطة ومحاولة تطوير دورها، وإعادة تعويم وجودها في مواجهة حركة "حماس". وإذا طالت مدة عدم إتمام صفقة تبادل الأسرى، فإن الحكومة الإسرائيلية، وتحت ضغوط محددة ربما تعود إلى سياسة المواجهات، وتوجيه الضربات إلى قطاع غزة مع التحسب لعدم الدخول في صدامات مفتوحة، أو حرب جديدة بحيث تبدو هنا حساباتها في دائرة محددة ومقصورة على تجديد بنك الأهداف السياسية والاستراتيجية كأساس للحركة المستقبلية مع السلطة وعدم الذهاب إلى خيارات أخرى في سياق ما يجري، وهو ما سيضعه رئيس الوزراء الإسرائيلي في تقييماته السياسية بالأساس، مكتفياً بخطاب سياسي واستراتيجي عام على الرغم مما يحمله من أفكار ورؤى متعلقة بالاستيطان والتهويد والعمل على تطبيق مخطط "الترانسفير"، ليس في حيّ الشيخ جراح، وإنما في مناطق التماس المقررة والموضوعة في سلم الأولويات الحكومية الراهنة مع اتباع استراتيجية التأجيل، وعدم الصدام مع الجانب الفلسطيني في الضفة، وليس في القطاع، وهو الأمر الذي ربما يضع كثيراً من الملفات على المحك في ظل ما يجري من اتصالات غير معلنة تتم في دوائر معينة ومحددة وفقاً لتوافر الإرادة السياسية لكل طرف، وبحسب المصالح الكبرى للجانبين.