جاء المخرج الهولندي بول فرهوفن إلى مهرجان كان السينمائي (6-17 الجاري) مع "بينيديتّا" (المعروض في المسابقة) محمّلاً بجدل عقيم. بقضية من كعب الدست. أراد صناعة جدل جديد حول حكاية عمرها أكثر من 300 سنة: قضية راهبة سحاقية أدانتها الكنيسة لميولها الشاذة. نية فرهوفن طيبة لا شك، وهو مخرج قدير، وكنّا ننتظر فيلمه هذا على أحر من الجمر، وقد تأجل عرضه منذ أكثر من عام كي يدخل مسابقة مهرجان كان الذي يبحث دائماً عن أفلام تحدث مشاكل. لكن هذا كله بدا قديماً مر عليه الدهر وشرب. في زمن كورونا ووسائط التواصل، ما عاد شيئاً يصدم أو يحدث فضيحة كما في الماضي. لا مشهد جنسيا بين راهبتين مصوَّرا بكل تفاصيله ولا أي كلام عن الدين أو الجنس. محاولته للاصطدام بالأحاسيس المرهفة لم تجدِ نفعاً، خصوصاً انها لم تحمل دلالات جديدة على علاقة بالعصر الذي نعيشه. أغلب الظن أن المخرج الفرنسي جاك ريفيت ختم هذا الفصل من الفضائح مع فيلمه "الراهبة" في العام 1966. كل فيلم لا يضيف شيئاً إلى ما سبق أن قيل في هذا المجال، افتعال مجاني مكرر أو رغبة في صناعة جدل من أجل الجدل.
تجري أحداث “بينيديتّا” في القرن السابع عشر خلال انتشار الطاعون في إيطاليا. تلتحق الشابة بينيديتّا كارليني بدير بيسكيا في توسكانا. منذ سن مبكرة، هي قادرة على صنع المعجزات، حتى إن وجودها في مجتمعها الجديد سيغير الكثير من الأشياء في حياة الراهبات المحيطات بها، لكن بينيديتّا تعاني أيضاً رؤى دينية معينة تعود وتتكرر في ذهنها لتحدث اضطرابات عميقة في نفسها. راهبة زميلة لها تساعدها في تخطي معاناتها، إلا أن العلاقة بينهما تتطوّر لتصبح علاقة رومانسية محرمة.
مضرم النار
قد لا يعجبنا أي شيء في "بينيديتّا"، لكن يبقى أن خلف بعض المشاهد سينمائيا شاطرا يعرف بالضبط ماذا يفعل، مع أن النتيجة تلفزيونية أكثر منها سينمائية. هذا ثاني فيلم لفرهوفن في فرنسا بعدما تخلى عن العمل في هوليوود وفي وطنه الأم هولندا. منتجه الفرنسي التونسي الأصل سعيد بن سعيد الذي كان سبق أن أنتح فيلمه السابق "هي"، يقول عنه أنه معلم البلوكباستر (فيلم هوليوودي جماهيري ذو موازنة عالية) التجريبي. "بينيديتّا" يختلف عن أفلامه السابقة، ولعل الأقرب منه هو "كتاب أسود" (2006) نظراً لانغماسه في التاريخ، لكن هذا لا يعني أنه لا يحمل شيئاً من "غريزة أساسية" (1992) الذي أحدث فضيحة في كان يوم عرض فيه، و"فتيات الاستعراض" (1995) الذي تحطّم تجارياً على شباك التذاكر في العالم أجمع. المشترك مع هذين الفيلمين هو تلك الرغبة في إضرام النار في كل لحظة. فرهوفن سينمائي غاضب لكن غضبه في جديده لا يزهر إبداعاً، بل أضحى عبئاً عليه، وكانت النتيجة مجرد فيلم لطيف وإن بدا العكس. فيلم غارق في الأكاديمية وإعادة تجسيد للماضي بحذافيره. وكي يبدو عكس ما هو عليه في الحقيقة، دس فرهوفن في فيلمه بعض الإيروسية واللقطات الخاصة بأفلام الرعب والكثير من الجنون والكيتش، وكل ما كان من الممكن تفاديه بسهولة.
تحمل قضية الراهبة بينيديتّا "طبيعة فريدة" يقول فرهوفن. المؤرخة البريطانية جوديث براون التي اقتبس من كتابها عثرت على الحكاية أثناء بحثها عن مشروع آخر في الأرشيف الفلورنسي. فتحت صندوقاً، فوجدت محضر محاكمة بينيديتّا التي جرت في القرن السابع عشر. تأثرت وفتنت. كانت أمام وثيقة نادرة. لا توجد محاكمات أخرى معروفة للمثليات في تاريخ المسيحية. ما أدهش فرهوفن في البداية هو مدى دقّة المحاكمة والكتاب في وصف الجنس.
روى فرهوفن في مهرجان كان أنه أنجز هذا الفيلم ليظهر الفرق بين ما كان عليه الوضع في أوروبا قبل 300 عاماً والوضع المسيطر اليوم في القارة نفسها. هناك تطور اجتماعي وسياسي، مع ذلك يصفه فرهوفن بالـ"صغير". في المؤتمر الصحافي، تطرق الإعلام إلى الجانب الجدلي للفيلم، فقال أحد الصحافيين إن نص ازدراء الأديان غير موجود في القانون الفرنسي لا بل القانون يحمي حرية نقد الدوغما الدينية، ورغم ذلك هناك منتقدون مهددون يعيشون تحت الخطر، مثل رسّامي مجلة "شارلي إيبدو" مثلاً، كما هناك بعض المتطرفين على الانترنت يتهمونه بازدراء الدين المسيحي. فقال فرهوفن رداً على هذا التعليق: "لا أفهم كيف يمكن الحديث عن ازدراء أديان في خصوص قصّة حدثت فعلاً، حتى لو كانت حدثت في العام 1625. هذه قصّة حقيقية. أعتقد هذا خطأ. لا يمكن تغيير التاريخ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في خصوص مشاهد العري في الفيلم، قالت الممثّلة بطلة الفيلم فيرجيني إيفيرا إنها سعدت جداً لخلع ملابسها، والأمر لا يشكّل بالنسبة لها أي مشكلة، ولا تجد أن هناك في فرنسا أي هستيريا أو خوف من هذا الموضوع، قبل أن يعقب عليها فرهوفن ببعض السخرية رداً على المنتقدين: "عادةً، عندما يمارس الناس الحب ينزعون ملابسهم. نحن لا نريد أن نرى الحياة كما هي. هذه الطهرانية التي اخترقت المجتمعات هي في رأيي خاطئة جداً".
أما في ما يتعلق بكونه أنجز فيلماً نسوياً، فيقول فرهوفن إنه لم يكن لديه أي نية في صنع فيلم نضالي، لكن هذا لا يمنع أنه يمكن اعتبار المسألة التي يتناولها تخدم قضية المرأة يمعنى أو بآخر. “أنا لا أفكّر أبداً في مصطلحات النشطاء السياسيين والاجتماعيين عندما أصنع فيلماً. إني مهتم بما هو على المحك، سرداً وموضوعاً، في القصّة التي أنقلها إلى الشاشة. النساء هن في صميم الكثير من أفلامي. تربيتُ في مدرسة حيث كان هناك العديد من الفتيات. نشأتُ على فكرة أنه لا يوجد فرق بين الرجال والنساء، بين ما يمكن أن يفعله الرجل وما يمكن أن تفعله المرأة، باستثناء الاختلافات البيولوجية والقدرة على الإنجاب. وفي الحقيقة، كانت الفتيات في الكثير من الأحيان أفضل مني كرجل!".