شون بن عرفناه ممثلاً في بداياته، ظهر في أكثر من خمسين فيلماً ونال جائزتي "أوسكار". هناك أيضاً شون بن الذي لا يعرفه الجميع، المخرج الذي أنجز ستة أفلام روائية طويلة من خلف الكاميرا لا أمامها. وقد احتاج إلى نحو عشر سنوات كي ينتقل من هذا الموقع إلى ذاك. ثمة على الأقل تحفتان سينمائيتان أنجزهما طوال السنوات الثلاثين الماضية، "التعهد" مع جاك نيكلسون (اقتباس لرواية الكاتب السويسري دورنمات) و"في البرية" الذي يعد من الأفلام الثورية عن ضرورة انخراط الإنسان في الطبيعة. لكن بن المخرج لم يقدم فقط أعمالاً تثير الدهشة، بل كانت له سقطات مدوية كادت تقضي عليه. لم ننس بعد "الوجه الأخير" الذي عرض في مسابقة كان قبل 5 سنوات وحصد آراء جد سلبية.
اليوم ينهض شون بن من تلك الانتكاسة، ويعود إلى مسابقة مهرجان كان السينمائي الرابع والسبعين مع "يوم العَلَم". نظراً للبهدلة التي تعرض لها في آخر مرور له هنا، فالأمر يتطلب منه كثيراً من الشجاعة، خصوصاً أن الإعلام في كانّ لا يرحم. "يوم العَلَم" ميلودراما عائلية اقتبسها من مذكرات الصحافية الأميركية (نشرت في عام ٢٠٠٤) جنيفر فوغل، روت فيها علاقتها المضطربة بوالدها سارق المصارف ومزور العملات، الذي كان يمتهن الكذب بشكل مرضي. في حياة هذا الرجل الذي يدعى جون فوغل (يلعب دوره بن نفسه في أول إطلالة له في فيلم من إخراجه) تفصيل لا بد من معرفته لفهم العنوان. لقد ولد في الرابع عشر من يونيو (حزيران)، أي في اليوم الذي تم اعتماد العلم المرصع رمزاً لأميركا في عام 1777. ولادته في هذا اليوم بالذات لها رمزية عند هذا الرجل الذي كانت له طموحات كبيرة. شخص مملوء بالأحلام الكبيرة، ولكنه غير قادر على تحقيق أي منها، لا له ولا لعائلته الممزقة.
جون الذي نتعرف عليه في الفيلم، رجل عنيف وأناني ودجال، ولكنه محب في بعض الأحيان. موقفنا منه سيظل ملتبساً حتى النهاية. هل أحببناه أو لا؟ هل هو جيد أو لا؟ جملة تساؤلات في شأنه ستبقى تساؤلات مفتوحة. ما هو أكيد في شأنه هو أنه ليس الرجل المناسب لتأسيس عائلة وتربية أطفال. وهذا ما يتبين في اليوم الذي ستتراكم عليه الديون فيغادر البيت العائلي، تاركاً أولاده جنيفر (ديلان بن) ونيك (هوبر جاك بن) في مصير مجهول. وليت الأب هو المشكلة الوحيدة لهذين الطفلين اللذين في أمس الحاجة إلى دفء الأهل وحنانهم. فالأم ليست في حال أفضل، تمضي وقتها في السكر وتهمل أطفالها.
تبدأ الحكاية في مطلع التسعينيات ثم تعود أدراجها إلى السبعينيات، لنكتشف الطفولة السعيدة للابنة جنيفر التي تروي تفاصيل عيشها من وجهة نظرها وبصوتها الرخيم الذي يجعلنا نتعاطف معها ونتأثر لمعاناتها. ننتقل معها من مرحلة إلى أخرى من حياتها الصعبة التي يهيمن عليها هذا الأب الذي يصعب بناء أي علاقة سوية معه.
الفيلم يذكّر كثيراً بأسلوب المخرج ترنس ماليك الذي لعب بن تحت إدارته في "الخط الأحمر الرفيع" و"شجرة الحياة"، وعلى الأرجح ترك فيه تأثيراً معيناً. أسلوب ماليك في التقطيع والتعليق الصوتي واللقطات القصيرة الخاطفة يحضر في "يوم العَلَم". طبعاً، لا يرتقي بن إلى عظمة ماليك. لكن في المقابل، يبرع بشكل استثنائي في نسج علاقة قوية بابنته التي أسند دورها إلى ابنته الحقيقية ديلان بن (من علاقة سابقة مع روبن رايت بن). ربما هذا هو السبب الذي جعلنا نحب الفيلم إلى حد ما، هذه الكيمياء بين الأب والابنة هي سر الفيلم، خصوصاً أنها تسمح لديلان بن أن تكشف النقاب عن موهبة تمثيلية كبيرة قد تحملها إلى بعيد، وهي منذ الآن، مرشحة لنيل جائزة التمثيل في كانّ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"يوم العَلَم" ليس أجمل فيلم في مسابقة كان. لكنه صادق وحقيقي. شون بن رجل لا يفعل الأشياء إلا عن قناعة، وهذه الملاحظة تنسحب حتى على فيلمه السابق الذي فشل فيه فشلاً غير مسبوق. ولعل أجمل ما في مشروعه السينمائي هو شغفه بأميركا العميقة. أميركا التي نراها في أفلامه لا تشبه في شيء تلك التي تصورها "هوليوود". هنا أناس لا أحد يرغب في أن يكون مكانهم أو أن يعيش حيواتهم المملة. أميركا شون بن لا تبعث على الحلم، فهي مملوءة بأشخاص يبحثون عن تحقيق الذات، والإفلات من ظروف عيشهم. هذا ما يريه بن هنا بعيداً من المظاهر. أبرز مثال على ذلك هو الابنة التي كانت معجبة بوالدها، رجل المغامرات عندما كانت طفلة، إلا أنها ذات يوم كبرت واكتشفت فيه رجلاً آخر له حياة سرية. جون فوغل لا يجد طريقه إلى الحلم الأميركي سوى بالنصب والاحتيال والكذب. وهذه هي أميركا أيضاً، ملايين الناس العاديين الذين يبقون في الظل ولا يهتم أحد بحيواتهم البسيطة. صحيح أن جون رجل فاشل لن يكون الحلم الأميركي من نصيبه، لكن في المقابل ابنته جنيفر ستصبح صحافية معروفة وتحقق ما لم يحققه والدها طوال حياته. لكن هذا سيحصل بعدما استطاعت الاستقلال عن عائلتها لتحلق بجناحيها نحو الحرية.
خلال وجوده في كان لم يتوانَ شون بن عن فتح النار على السياسة الأميركية. فهو من الفنانين المسيسين الذين لا يفصلون السياسة عن الفن. في المؤتمر الصحافي الخاص بالفيلم، هاجم النحو الذي عولج فيه وباء كورونا في أميركا والعالم. قال، "لقد تم التخلي عن الناس. أهملونا وأعطونا معلومات خاطئة. كانت هذه إهانة للمنطق والحقيقة. إدارة كورونا كانت فساداً على المستويين الإنساني والسياسي". هذا وكان شون بن كرس كثيراً من جهوده الشخصية في مكافحة الوباء، من خلال افتتاح مراكز لإجراء الفحوصات في لوس أنجليس، ومراكز للقاح في شيكاغو. كما انه تولى توزيع مواد غذائية للطبقات الأكثر تضرراً من الوباء. كان هذا دائماً أسلوب الرجل في اختصار الطريق بين الحلم والواقع.