قبل الإعلان عن اقتراب موعد تدشين اللسان الإسفلتي الذي يشق صحراء الربع الخالي بين الرياض ومسقط، لم يكن من سبيل مباشر يربط العاصمتين الخليجيتين الكبيرتين سوى المرور بمحطة ثالثة لا تستقر الحال فيها، كما هو الوضع في اليمن، الذي يهدد بأزماته المستمرة الانتقال بين البلدين، والإمارات المستقرة في ذاتها، المتأرجحة في علاقتها مع السلطنة في أمور ذات علاقة بالتاريخ والجغرافيا.
إلا أن الدرب بين البلدين الذي تعتريه الصحراء برمالها وأزماتها بين الفينة والأخرى بات هناك ما يغسله، فالبحر الذي بات محورياً في رحلة عُمان نحو الإصلاح، صار أكثر أهمية بالنسبة إلى السعودية على ما يبدو، إذ سيطرت القمم الاقتصادية بين وزراء الاستثمار والنقل على لقاءات نيوم، بعد اختتام القمة الكبرى بين الملك والسلطان، تحدث فيها الوزراء عن أهمية الشراكة في اقتصاديات النقل والخدمات اللوجستية، بحسب وكالة الأنباء السعودية.
في المقابل، كان ما ورد في وكالة الأنباء العمانية قريباً حد التطابق مع ما نشرته "واس"، دون إيراد تفاصيل إضافية، كون الزيارة التي تمتد ليومين لم تنته بعد، وهو ما يشي بتفاصيل قادمة يمكن أن تحملها لقاءات الساعات المقبلة، إلا أن وسائل إعلام محلية في السلطنة تحدثت عن اهتمام الزيارة باستعراض الميزات التنافسية التي تملكها البلاد وبناها التحتية المطلة على حدودها الجنوبية من موانئ ومناطق اقتصادية، وهو ما بات أخيراً ذا أهمية بالغة بالنسبة إلى الرياض.
البدائل وليدة الأزمات
تسير القوافل الاقتصادية العابرة للقارات دائماً وفق سنن كونية تحددها مسارات المياه واليابسة دون عناء ابتكار طرق جديدة، حتى تحل الأزمات لتدفع الدول لبدائل.
أزمتان لا تجتمعان إلا في الحل، مرت بهما الرياض ومسقط جعلت من التقارب وتبادل الفرص ضرورة قومية للبلدين، فالسعودية التي تخوض صراعاً مع ند إقليمي، إيران، تجد اقتصادها مرهوناً بالتهديدات القادمة من طهران بإغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة البحرية، أو اعتراض ناقلاته التي يتنفس من خلالها الاقتصاد السعودي النفطي بقرابة 40 في المئة من صادراته يومياً.
وهو ما يدفع الرياض مع كل أزمة إلى إعادة فتح ملف البدائل، بدءاً من الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، عندما دشنت "أرامكو" خط أنابيب "بترولاين" الذي ينقل النفط من شرق البلاد إلى غربها في ميناء ينبع المطل على البحر الأحمر، الذي استمر تطويره حتى بات ينقل نصف إنتاج السعودية من النفط، إلا أن هرمز ما زال يحافظ على قيمته مقارنة بالبدائل من ناحية الكلفة، بخاصة لزبائن آسيا التي تحجز ما يصل إلى 70 في المئة من صادرات النفط السعودية، بين الهند والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة ودول أخرى.
خط آخر ولد مع عودة موجة التهديدات الإيرانية بداية القرن الحالي بإغلاق المضيق، ففي عام 2002 وقعت السعودية واليمن اتفاق مبادئ لإنشاء أنبوب نفط إلى أحد الموانئ اليمنية على بحر العرب، وبحسب وكالة الأنباء اليمنية آنذاك، فإن الاتفاقية تعطي شركات بين البلدين "حق إعداد الدراسات الاقتصادية الخاصة بجدوى المشروع الاستثمارية، الذي سيمتد مسافة 400 كيلومتر من داخل حقول النفط والغاز في منطقة الربع الخالي جنوب السعودية، إلى الشاطئ الجنوبي لليمن في حضرموت المطلة على بحر العرب"، إلا أن العمل على دراسته توقف فجأة دون أن يبدي الطرفان أي أسباب سوى ما ترشح عن خلاف حول إدارة الأنبوب وملكيته، إضافة إلى أمور أمنية، وهو ما بات واضحاً في الظرف الذي تعيشه اليمن اليوم.
ذلك الخلاف قاد إلى البديل المفترض، عُمان التي تداولت مع جارتها النفطية فكرة الأنبوب النفطي دون جديد، لكنها لم تتوقف عن الاستثمار في ما يمكن أن يخدم مشروعاً كهذا، فخلال العقدين الأخيرين طورت بناها التحتية على خليج عُمان وبحر العرب في مدينتي الدقم وصحار، بتطوير الموانئ وإنشاء المنطقة الاقتصادية.
أزمة الخليج فرصة عُمان في أزمتها الداخلية
وفي ذات السياق، تنظر السلطنة التي لم تكن يوماً معنيةً بصراع الشرق الأوسط بين كفتي الخليج، إلى كونه فرصة للخروج من صراعها الداخلي القائم على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها.
فعُمان التي اصطدمت مع حتمية الإصلاح، كان آخرها ما حصل في أواخر مايو (أيار) الماضي، عندما لجأ محتجون في مدينة صحار شمال البلاد إلى الشارع، مطالبين بتحقيق إصلاحات في نظام العمل، واحتواء أزمة البطالة وخسارة الشباب وظائفهم جراء التردي الذي يخلقه فيروس كورونا، تلتفت في كل مرة إلى موقعها الجغرافي.
إذ تتناول خططها بدءاً من خطة التنمية التي أعلنت في 2011 بعنوان "سلسلة اللآلئ العمانية"، وصولاً إلى رؤية 2040 التي لم تتنكر للخطة السابقة، تتناول ضرورة "تكامل المدن الشاطئية، وإنشاء صناعات وخدمات لوجستية بالقرب من الموانئ التي تغطي كامل الرقعة الجغرافية للسلطنة، وربطها من طريق المطارات والسكك الحديدية وخط الباطنة الساحلي"، وذلك بالتخطيط لإنشاء "الموانئ البحرية بأعلى المستويات والمعايير الدولية المُتعارف عليها، وتطويرها من خلال عملية تتسم بالتكامل، حيث إنها تتم في إطار رؤية محددة تحرص على تكامل الإمكانات والمزايا التي تتمتع بها موانئ السلطنة، وذلك من خلال توزيع المهام بين الموانئ"، بحسب ما نصت عليه الرؤية.
هذا الملف حمله السلطان معه إلى شمال السعودية، على الأقل من وجهة نظر الإعلامي العماني سليمان العامري، الذي قال "الجانب اللوجستي يشكل أهمية قصوى في رؤيتي البلدين، من خلال استراتيجية النقل التي أعلنتها السعودية وسلسلة اللآلئ العمانية التي باتت ضمن رؤية 2040"، مضيفاً أن مسقط تخطط لاستثمار طريق الربع الخالي البري "تعمل عمان على تطوير مشترك مع السعودية لمناطق صناعية عند المنفذ الحدودي بين البلدين، هذا لا يمكن النظر إليه بعيداً عن مشروع تطوير مدينة الدقم وتحويلها إلى مرفأ للصادرات الصناعية، بخاصة وأن طريقاً برياً بات يربط حدود البلدين بالمدينة الساحلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف العامري "وما ذكرناه هو أولوية عمانية في التكامل اللوجستي مع السعودية، في المقابل تملك السعودية أولوية هي الأخرى، فهي تبحث عن بديل لمضيق هرمز، إضافة إلى بحث فرص إحياء خط الأنابيب الذي تعود فكرته إلى فترة حرب الناقلات والذي كان من المخطط أن تشارك فيه الإمارات والكويت آنذاك".
هل يعيدان تشكيل خطوط التصدير؟
من شأن خطوة واسعة كهذه بين البلدين أن تعيد رسم جغرافيا الاقتصاد، إذ طورت عمان بنى تحتية كبيرة على البحر، حيث سيدخل ميناء الدقم، الرهان الاقتصادي المقبل للسلطنة مرحلة التشغيل الكامل خلال العام الحالي، فبحسب شركة ميناء الدقم، فإن "الشركة تعمل بالتعاون مع الهيئة العامة العمانية للمناطق الاقتصادية الخاصة والمناطق الحرة، على تسليم آخر الحزم الإنشائية المتعلقة بالميناء خلال الأشهر المقبلة، ليستطيع الميناء العمل بما يقرب من الطاقة الكاملة".
ويعلق المحلل الاقتصادي السعودي، خالد الدوسري، على ذلك قائلاً "خطوة كهذه ستكون مهمة بالنسبة إلى الصادرات السعودية في عملية تقليل المخاطر، لكن لا أميل إلى المبالغة في أثر ذلك على تغيير خريطة الملاحة وأهمية هرمز استراتيجياً، فهو على الرغم من حجم الصادرات النفطية السعودية عبره، إلا أنه يشكل جزءاً من كل، تشارك فيه العراق والإمارات والكويت، تصدر من خلاله ما يصل إلى 80 في المئة من إنتاجها النفطي".
ويشدد "هذه النسبة لا يمكن نقلها براً أو عبر أنابيب من طريق عمان، إضافة إلى أن هذه الدول تملك أولويات مختلفة قد لا تتشارك مع المخاوف السعودية بالكامل، لذلك ستستمر في استخدام المضيق، بخاصة أنه لا يزال يشكل مصدر الصادرات الأقل كلفة من الخيارات الأخرى"، مضيفاً "لكن بلا شك، له تأثير، إذا ما وضعنا في الحسبان بقية الصادرات السعودية غير النفطية، إذا ماتم الاستثمار جيداً في المعابر بين البلدين".
وعلى الرغم من اختلاف الأولويات، والموقف من الجارة الفارسية بين الدولتين، إلا أن أولوية الإصلاح الاقتصادي تجعل من فرص الالتقاء بينهما عالية، بين الباحث عن بدائل تصديرية للمضيق، وآخر يعد الفرص التي تخلقها أزمان هرمز لحل أزمات تعصف باقتصاد البلاد.
إذ ورد التنسيق النفطي في بيان سعودي عماني في ثاني أيام الزيارة، إذ شددا على أهمية "جهود دول مجموعة أوبك بلس، التي أدّت إلى استقرار وتوازن الأسواق البترولية، رغم ضعف الطلب الذي عانت منه الأسواق جراء موجات جائحة كورونا التي لا تزال تؤثر على جزء كبير من العالم. وأكّدا على ضرورة الاستمرار في التعاون لدعم استقرار الأسواق البترولية". في حين أكدا على أهمية التعاون فيما يخص التهديدات الإيرانية والتعامل بشكلٍ "جديٍ وفعّال مع الملف النووي والصاروخي الإيراني بكافة مكوناته وتداعياته وبما يسهم في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي والتأكيد على مبادئ حُسن الجوار واحترام القرارات الأممية والشرعية الدولية وتجنيب المنطقة كافة الأنشطة المزعزعة للاستقرار".