آخر الثمانينيات، انتشر جهاز الكمبيوتر الشخصي في ليبيا، أو الحاسوب كما دعاه القذافي، في إطار هوسهِ بالمخالفة. وقد رأيت أنه جهاز مهم، ومن الضرورة الحصول عليه، لكن حينها كان الجهاز مكلفاً، من ناحية الثمن، ومن ناحية أن الخاصة مَن تحصل عليه. لما تمكنت من هذا وذاك، كان علي أن آتي بورقة رسمية من الأمن، تأذن ببيع جهاز لي، الأمر الذي كان صعباً، وقد كنت خرجت لتوي من السجن، بعد قضاء عشر سنوات، بتهمة الانتماء إلى تنظيم يستهدف إسقاط نظام الحكم، يتكون من 11 شاباً مدنياً، لم يتجاوز أكبرهم النصف الأول من العشرينات، وهم شعراء وكتاب قصة.
حال ذلك دون الحصول على جهازي الأول، لكن صديقاً اقترح أن نزور مقر الشركة، الذي كان في العاصمة طرابلس، وكنت من سكان مدينة بنغازي، وما بينهما يزيد على ألف كيلومتر. اقتراح الزيارة لغرض البحث عن واسطة. حين دخلنا المقر، شاهدنا أجهزة مرصوصة بجانب بعضها البعض، وكل جهاز عليه فاتورة تسديد قيمته، وكان صاحب كل جهاز يأتي بأوراق الإذن الأمني، ويأخذ جهازه ويخرج. الصديق الجريء، اقترح أن نأخذ جهازنا ونخرج مع الخارجين، وكأننا قدمنا المطلوب منا، فقد لاحظ الفوضى وعدم التدقيق. هكذا حصلت على أول جهاز كمبيوتر في ليبيا، فشكراً لها، وللصديق، وللأمن الإلكتروني.
تذكرت قصتي الإلكترونية مع الأمن، لما شاهدت هذه الأيام صورة لسيارة ليبية رسمية تجوب الشوارع، مكتوب عليها الأمن الإلكتروني. وتذكرت أن هذا الأمن، حسبه أن يتخصص في التلصص على الرسائل الإلكترونية. وكنت في الأيام الأواخر من عهد القذافي، قد لاحظت قرصنة لبريدي الإلكتروني، فكتبت على صفحة "فيسبوك" الخاصة بي إعلاناً يحتوي على المفتاح السري "الباس وورد" لبريدي، فلا داعي لأن يتكبد الأمن عناء شراء أجهزة من فرنسا، والتدريب على أيدي فرنسية، وخلق وظيفة جديدة لمن لا وظيفة له، في جهاز سيدعى: الأمن الإلكتروني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الخبر الذي يخص فرنسا، فقد جاءت به الأنباء كالتالي: وجه القضاء الفرنسى، تهمة "التواطؤ في أعمال تعذيب"، إلى شركة "أميسيس" الفرنسية، على خلفية الاشتباه في توفيرها معدات تجسس إلكتروني لنظام معمر القذافي. ووفقاً لقناة "يورو نيوز"، أوضحت المصادر أن لائحة الاتهام وجهت إلى شركة الهندسة في 18 يونيو (حزيران) الماضي. وفُتح تحقيق قضائي في عام 2013، على خلفية اتهام "أميسيس" ببيع برنامج يسمح بتعقب معارضين ليبيين لنظام القذافي، بين عامي 2007 و2011. واتهم قضاة التحقيق الباريسيون، الرئيس السابق لشركة Amesys الفرنسية ، التي باعت في عام 2006، بدعم من السلطات الفرنسية، معدات تجسس رقمية لنظام القذافي. وتم استخدام المواد في عام 2011 لقمع المعارضين الليبيين. ووفقاً لموقع "ميديا بارت" الفرنسي، فبعد عشر سنوات، من تقديم شكوى من قبل الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان (FIDH) ، تتسارع العدالة الفرنسية في هذا الاتجاه، حيث قام قضاة باريس للتو بالتحقيق في تهم "التواطؤ في أعمال التعذيب"، بحق فيليب فانييه الرئيس السابق لـ"أميسيس".
ولاحظوا أن العقيد معمر القذافي قد قُتل في سرت، ولكن روحه بعثت في باريس، حيث القضاء الفرنسي، يتابع آثار القذافي بعد موته. فبعد قضية اتهام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، بالحصول على ملايين من اليورو من القذافي، قيل إنها استُخدمت في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ها هي شركة فرنسية أمام القضاء، والحبل على الجرار.
واضح أن الأمن الإلكتروني، لا يختلف إلا من حيث الشكل، عن كاريكاتير رجل المباحث، من يجلس في المقهى، ليتلصص على شخصية مفترضة كمعارض مثلاً. رجل المباحث هذا أثناء التلصص، يجلس يقرأ جريدة بالمقلوب، دون وعي منه بذلك، لأنه رجل أمي. وعلى هذا الأساس، كنت قد أشرت في مقالة لي نُشرت في "اندبندنت عربية"، عن اندلاع الحرب السيبرانية، التي أشعلت النيران في دولة ملالي إيران، الذين ينكرون ذلك، ويوفرون كل جهدهم، للأمن الإلكتروني الذي يتجسس على صفحات المواطنين الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا ما وضحه الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، عقب منعه من الترشح للرئاسة، عند ما دعا "الجهات الأمنية" في أجهزة المخابرات في البلاد، إلى الاهتمام بالمنشآت النووية، بدلاً من "التنصت" على الناس. وأشار إلى أن الانفجار الأخير، في موقع منشأة نطنز النووية، وسط إيران، و"الخسائر التي لحقت بالبلاد تُقدر بنحو 10 مليارات دولار".
هكذا يختزل الأمن السيبراني، في أمن الملالي، وهكذا يكون العصر السيبراني، تغييراً جذرياً لم يدرك مداه، فقد تداعى النظام القديم، لكنه ما زال يطلب ورقة أمنية، لأجل الحصول على كمبيوتر! كي أكتب مقالتي: الأمن الإلكتروني.