مناورات "نسيم البحر" التي قامت بها الولايات المتحدة وحلف "الناتو" في حوض البحر الأسود على مقربة من الحدود الروسية، أثارت ولا تزال تثير الجدل في الأوساط السياسية والعسكرية الروسية والعالمية. وقد جاءت مشاركة أربع من الدول العربية، هي مصر، وتونس، والإمارات، والمغرب، إلى جانب إسرائيل وأوكرانيا، في هذه المناورات، لتضفي عليها كثيراً من الإثارة، لا سيما أنها أتت في توقيت يشهد تصاعد التوتر بين روسيا وخصومها الغربيين. وتزامنت مع انعقاد جلسة مجلس الأمن التي ناقشت قضية سد النهضة المُختلف عليها بين إثيوبيا ومصر والسودان. وفيما ربط البعض بين مشاركة مصر في هذه المناورات، وما اتسمت به كلمة المندوب الدائم لروسيا من ابتعاد عن تأييد توجهات الجانب المصري وانتقاده ما وصفه بـ"التهديدات"، جاء الإعلان عن توقيع موسكو "اتفاقية تعاون عسكري" مع أديس أبابا، ليضفي مزيداً من الإثارة والتوتر في علاقات الجانبين. ومع تحول تلك العلاقات إلى "وضعية الأزمة المكتومة"، يرى البعض أن ثمة حاجة إلى "تدخل سريع" لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توقف في أكثر من مناسبة عند "توقيت" إجراء هذه المناورات التي كادت تشهد الصدام العسكري الأول في حوض البحر الأسود بين روسيا وقوات "الناتو". ويقول مراقبون في موسكو، إن تبعات ذاك الصدام كان يمكن أن تنسحب على علاقات روسيا مع البلدان التي شاركت فيها. وتوقف المراقبون في موسكو عند المسرح العملياتي لهذه المناورات، وما استهدفته من تدريبات شملت "الإنزال البحري على شواطئ العدو، والدفاع الجوي والقوات الخاصة وتحركات الغواصات". ومن هذا المنظار أدرج الرئيس بوتين حادث دخول المدمرة البريطانية "Defender"، إلى المياه الإقليمية الروسية، لافتاً إلى مغبة ما كان يمكن أن يسفر عنه من تبعات استبقتها روسيا بإطلاق صواريخ تحذيرية في اتجاه المدمرة التي انتهكت حرمة المياه الإقليمية الروسية قبالة القرم. وقال بوتين، إن ما جرى "استفزاز واضح متكامل دبره ليس البريطانيون فحسب بل الأميركيون أيضاً". واعتبر أن الحادث كان مدبراً واستهدف "الكشف عن كيفية رد القوات الروسية على خرق حدود الدولة من قبل المدمرة البريطانية ورصد مواقع انتشار الدفاعات الجوية الروسية في القرم".
واستدعت وزارة الخارجية الروسية السفيرة البريطانية لدى موسكو، ديبورا برونيرت، لتعرب لها عن احتجاجها على ما وصفته بـ"التصرفات الاستفزازية والخطيرة للسفينة التابعة للبحرية البريطانية في المياه الإقليمية الروسية". وهددت "بقصف السفن البحرية البريطانية في البحر الأسود لاحقاً، إذا مارست مزيداً من الأعمال "الاستفزازية".
خط أحمر
وعلى الجانب الآخر، أعلن جيمس أباتوراي الممثل الخاص للأمين العام لـ"الناتو" في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، أن "الحلف يعتزم الحفاظ على وجوده في البحر الأسود، وسيعزز التعاون مع الشركاء في هذه المنطقة". وقال إن "الحلف يعتبر شبه جزيرة القرم أوكرانية وليست روسية". ونقلت المصادر الإعلامية والعسكرية ما قاله أباتوراي عن أن "على روسيا إدراك أن الناتو وحلفاءه لن يتراجعا عن مواقفهما تجاه هذه القضية". ما يضع البلدان العربية التي شاركت في هذه المناورات في موقف ثمة من يقول إنه يقترب من موقف العداء لروسيا ومصلحها في منطقة تقع على مقربة من حدودها الجنوبية. وترى المصادر الروسية أن القول إن المشاركة العربية في مناورات "الناتو" في حوض البحر الأسود مثل تلك التي يجريها في حوض البحر المتوسط، "مقارنة لا تجوز" نظراً إلى أن المناورات الروسية تجري في كثير من مراحلها داخل المياه الإقليمية لروسيا، إضافة إلى أن مناورات "نسيم البحر" تأتي تأكيداً على "تنامي الشراكة العسكرية بين مصر والولايات المتحدة، إذ انضمت القاهرة إلى القوة البحرية المشتركة الأميركية في أبريل (نيسان) 2021، وأصبحت العضو الرقم 34"، بحسب إشارة قناة "سكاي نيوز عربية" نقلاً عن مصادر مصرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول المصادر الروسية، إن المناورات "الناتو" في حوض البحر الأسود تختلف كثيراً من حيث الأهداف والمسرح العملياتي عن نظيراتها في هذه المنطقة. وعلى الرغم مما يقال عن إن مثل تلك المناورات لا تضيف كثيراً من الأمن إلى الولايات المتحدة والعديد من حلفائها في المنطقة، هناك من يقول على الصعيد الرسمي إنها تظل سبباً في زعزعة استقرار المنطقة، لا سيما بعد نجاحها في توحيد بلدان حوض البحر الأسود ومنها جورجيا وأوكرانيا، على الرغم من عدم تمتعهما بعضوية الحلف، إلى جانب بلغاريا ورومانيا وتركيا، تحت قيادة الولايات المتحدة.
وتبقى تلك المناورات مصدر قلق لروسيا التي سبق واعتبرت أن محاولات انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى "الناتو" "خطاً أحمر" يهدد أمنها القومي. وهو ما كشف عنه الرئيس بوتين في يونيو (حزيران) الماضي. وكان قائد البحرية الأوكرانية الكسي نيزبابا وصف مناورات "نسيم البحر" بأنها جاءت "إشارة قوية للحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة".
التضامن مع أوكرانيا
ونقلت المصادر الإعلامية عن كايل جانت ضابط البحرية الأميركية وآخرين من القيادة الأميركية أن "هذه المناورات تؤكد التضامن مع أوكرانيا وتوضح أن البحر الأسود مياه دولية وليس ملكاً لدولة واحدة"، فضلاً عن أنها "تتوافق مع موقف "الناتو" في شأن الضم الروسي غير القانوني لشبه جزيرة القرم". وكتب سكوت مان في مجلة "بيزنس إنسايدر" Business Insider" الألمانية أن "مثل هذه التقديرات والبيانات تستند إلى حسابات منطقية خطأ. أولاً، لأن القيمة الاستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة مبالغ فيها. إلى جانب أن أوكرانيا ليست حليفاً أو عضواً في الناتو- وينبغي ألا تكون كذلك، والولايات المتحدة تخاطر بتعقيد التسوية بين كييف وموسكو بإشارات دورية إلى عضوية أوكرانيا في الحلف في المستقبل القريب، إضافة إلى أن توسع حلف الناتو حتى مقربة مباشرة من حدود روسيا أسهم في التوترات في المنطقة. ثانياً أن ما يحدث في البحر الأسود لا يشكل تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة".
أضاف الخبير الألماني أن "مكانة الولايات المتحدة ومنذ اندلاع أحداث 2014 في أوكرانيا، باتت معرضة للخطر في ضوء ما يحدث في البحر الأسود. والأوضاع يمكن أن تتفاقم إذا ما استمرت واشنطن في التأكيد على التزاماتها تجاه كييف".
وفند سكوت مان ما يقال عن أن مثل هذه التدريبات العسكرية المشتركة يمكن أن تساهم في الحد من توجهات روسيا، مؤكداً عدم صحة هذه التقديرات. وضرب مثالاً على ذلك بقوله، إن مثل هذه المناورات تُقام بشكل دوري منذ أمد بعيد بحجة حماية أمن أوكرانيا واستقرارها. مع ذلك، فقد أقدمت روسيا على ضم شبه جزيرة القرم في 2014".
وفي هذا الصدد حذرت مصادر روسية عسكرية من مغبة ما وصفته بـ"المشاركة الضخمة متعددة القوميات". وقالت إنها يمكن أن تسفر عن "زيادة مخاطر وقوع حوادث غير مقصودة"، على حد تعبير صحيفة "كوميرسانت" الروسية. وقالت المصادر إن المناورات متعددة الجنسيات "Sea Breeze 2021" لم تكد تعلن عن بداياتها حتى صارت إنذاراً بنشوب "حرب أعصاب جديدة في العلاقات بين روسيا والغرب". ونقلت الصحيفة عن الوفد الروسي المشارك في المحادثات في شأن الأمن العسكري والحد من التسلح في فيينا دعوته الولايات المتحدة إلى التحلي بالشفافية، وتأكيده أن حجم التدريبات وعدوانيتها لا يسهمان في الحفاظ على الأمن في البحر الأسود.
ومن هذا المنظار، أعلنت المصادر الروسية عن ضرورة أن تبادر الولايات المتحدة إلى الإعلان عن سحبها الأسلحة الحديثة والذخيرة والممتلكات المادية من أوكرانيا، وتأكيد ضمانات منع وقوع أي من هذه الأسلحة في أيدي القوات العسكرية والتشكيلات الوطنية في دونباس"، في إشارة صريحة إلى مخاوف موسكو من تزويد القوات الأوكرانية بهذه الأسلحة، لاستخدامها في حربها مع الجمهوريات غير المعترف بها في جنوب شرقي أوكرانيا.