بقدر ما كان يزداد في السينما السوفياتية عدد وسطحية الأفلام المتحدثة عن الثورة البلشفية في تراجع مدهش عن تلك الأفلام "الثورية التاريخية" الرائعة التي كان يحققها مبدعون من أبناء الجيل الذي عايش الثورة حقاً، كانت تلك الأفلام قد بدأت تثير مقادير كثيرة من الملل واللامبالاة. ومن هنا كان من الواضح أن نيكيتا ميخالكوف، أحد كبار المخرجين السوفيات في السنوات الأخيرة من عمر الدولة التي نتجت عن الثورة، الاتحاد السوفياتي، كان يخاطر بسمعته وبأموال منتجيه حين قرر يوماً أن يحقق فيلماً شارك أخوه السينمائي أندريه كونتشالوفسكي في كتابته، عن أحداث تقع خلال الأسابيع الأولى للثورة في عام 1918.
قبل الدولة الديكتاتورية
للوهلة الأولى يومها، وقبل أن يشاهد الفيلم ويحدث تلك الصدمة الإيجابية المحلية والعالمية التي أحدثها، راح معجبو سينما ميخالكوف وهم كثر في بلاده وفي العالم الخارجي، يتساءلون عما تراه سيقول بعد، عن ثورة قالت عنها مئات الأفلام أشياء لا تعد ولا تحصى. ولكن، حين عرض الفيلم وكان عنوانه "عبدة للحب"، دهش الجميع لأنهم وجدوا أنفسهم أمام فيلم يجيب على سؤال كثيراً ما طرحوه على أنفسهم: ما الذي كان يجري في تلك البلاد خارج إطار الثورة حين كانت مندلعة، كيف كان الناس يعيشون، كيف كانت أحوال الفن والفنانين، بل حتى ما الذي كانت عليه السينما الروسية نفسها في زمنها الصامت، وكيف انبنت تلك العلاقة بين الفن والثورة، التي ستبلغ الذرى ولو لسنوات قليلة قبل أن تتحول الثورة إلى دولة، وإلى دولة ديكتاتورية بالتحديد مع نهاية عهد لينين وبدايات عهد ستالين؟ والحقيقة أن التوسع في تلك الأسئلة والإجابة عليها كانت "الأعجوبة الصغيرة" التي حققها هذا الفيلم التجديدي الذي، إلى ذلك، لم يفته أن يطل من خلال أحداثه التي تقع أواخر عشرينيات القرن العشرين، على الزمن الراهن، أي الراهن حين تحقيقه أواسط السبعينيات وقد عرف مخرجه كيف يطلق فيه نواقيس الخطر المحيق بالمثل الأعلى الثوري في زمن الجمود البريجنيفي دون أن تعرف براثن السلطة والرقابة كيف تمسكانه!
من الفن إلى "الثورة"
وكل هذا والفيلم ميلودرامي لا يدنو من "الثورة" إلا قليلاً مفضلاً على ذلك أن يدنو من حكاية امرأة ذات عواطف ملتهبة. امرأة بنيت شخصيتها بتصرف بديع انطلاقاً من نجمة العشرينيات ذات الشعبية العريضة في بلد الموسكوب: فيرا خولودنايا، ولكن على خلفية تصوير فيلم عاطفي صامت لا وجود له تاريخياً هو "عبدة للحب". وكما أن عنوان هذا الفيلم داخل الفيلم لم يكن حقيقياً كذلك سُميت البطلة، بطلة الفيلم والفيلم داخل الفيلم أولغا فوزنيسينسكايا، مع أن أحداً لم يكن يجهل أن أولغا هذه ليست سوى فيرا، وأن الأحداث التي تحيط بعملها في الفيلم المتخيل تعكس أحداثاً حقيقية عايشتها فيرا فيما كانت تصور بالفعل دورها في فيلم فاجأته الثورة فاندفعت مع التقنيين والفنانين الآخرين إلى مناطق بديعة في القرم يصورون فيها بعيداً من موسكو وسانت بطرسبرغ وغيرها من المدن المنتفضة. ففي أوديسا بعيداً عن صخب الثورة ودمويتها، كانت الأمور هادئة، ولو إلى حين، تحت سيطرة الروس البيض ما يناسب، من ناحية مبدئية، فنانين لا يريدون أن تكون لهم أي علاقة بالأحداث الكبرى. ولكن هل هذا ممكن؟
اختفاء شريط
هنا سيأتي جواب الفيلم ولو في مشاهده النهائية. ففي البداية لدينا تصوير رائع لفيلم صامت وللعالم الفني المحيط بذلك التصوير والمتحلق من حول النجمة أولغا التي يبدو كل شيء لها جيداً باستثناء أن شريكها في بطولة الفيلم فلاديمير ماكساكوف الموجود في موسكو، تخلف عن اللحاق بفريق العمل هو الذي يقوم بالبطولة أمامها ويعرف الجميع أنه في الوقت نفسه حبيبها في الحياة الطبيعية. ومن هنا يدور القسم الأول من الفيلم في أجواء فنية خالصة تقطعها شكاوى أولغا من تأخر حبيبها عن الوصول، وشكاوى فريق العمل من قرب نفاد لفافات الفيلم الخام التي تؤخر الثورة وصولها من موسكو. ويشكو صناع الفيلم عموماً من الحضور الطاغي واليومي لرجل استخبارات الروس البيض الذي يريد أن يشرف على كل كبيرة وصغيرة متسائلاً في كل يوم عن السبب الذي جعل فائضاً من الشرائط الخام يختفي. ونحن لن نعرف جواباً لهذا السؤال إلا بعد حين، أي حين يحدث التقارب الذي شاء ميخالكوف أن يرسمه في فيلمه، بين الفن والثورة. وذلك تحديداً من خلال شخصية أولغا نفسها. فهي بعد أن تمضي أيام التصوير في انتظار وصول حبيبها، تبدأ في الشعور باليأس منه وتعرف أنها غير قادرة على أن تعيش من دون حب بخاصة أن "جاسوس" الروس البيض الكريه لا يتوقف عن محاصرتها ومحاولة التقرب منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أولغا تنقذ الفيلم
هنا في تلك اللحظة بالذات تشعر أولغا بتقارب غير متوقع مع مصور الفيلم فيكتور بوتوزسكي. وكان جاسوس البيض فيدوتوف قد أعلن قبل حين أنه يشك في أن واحداً من فريق التصوير قد استخدم فائض الشريط السلبي لشؤون دعائية تتعلق بالثورة المندلعة شمالاً وراح يحقق. وهنا، في لحظة كان فيها ثملاً، يعترف فيكتور أمام أولغا بأنه هو الذي استخدم الشريط تحديداً كي يصور عليه مشاهد عنيفة كان شاهداً عليها تتعلق بالتعذيب المريع الذي يمارسه الروس البيض من جماعة فيدوتوف ضد كل من يشتبهون بكونه مناصراً للثوار الحمر، مضيفاً أن هذه المشاهد يجب أن تُهرب الآن إلى موسكو، ومن هناك إلى أوروبا كي تعرض كنوع من الرد الدعائي على مشاهد كان البيض يرسلونها إلى المدن الأوروبية معبرة عن فظائع يرتكبها الثوار في حق البيض والمدنيين عموماً. وهكذا من خلال هذا "الفعل الثوري" الذي يقوم به فيكتور المعترف أمام أولغا بأنه يخفي الشريط المصور في عربته، تحدث لحظة اللقاء بين أولغا والثورة، وهذا من خلال التعاطف المتجه نحو حالة غرامية بينها وبين فيكتور المنتمي أصلاً إلى الثورة. ويصبح إيصال الشريط تهريباً إلى موسكو شغل أولغا الشاغل وقد تبدلت شخصيتها بشكل نهائي تحت وقع غرامها الجديد، ولكن كذلك تحت وقع نفورها من ممارسات البيض، بعد أن كانت أخبار الثورة قد أزعجتها قبلاً حين رصدت افتقار كثر من الثوار إلى الوعي وإلى الحس الثوري الحقيقي. ومن الواضح هنا أن تلك النظرة المزدوجة هي ما أراد ميخالكوف التعبير عنه في هذا الفيلم الذي ينضح بالرومانسية وببعض ميلودرامية كغلاف لا بد منه للتمويه على نظرة ناقدة إلى العلاقة مع الثورة؛ تلك العلاقة التي نعرف أنها ستكون الشغل الشاغل لميخالكوف حتى بعد انفراط الاتحاد السوفياتي وسقوط المنظومة الاشتراكية هو الذي عبر عن ذلك في بعض الشرائط القوية التي حققها لاحقاً على طريقة: أفلم أقل لكم؟ وبخاصة في فيلمه "الشمس الخادعة".
تبديل عبارات أخيرة
ومهما يكن من أمر فلا بد أن نشير هنا إلى أن ميخالكوف حين أنجز فيلمه في عام 1967 وأراد عرضه انطلاقاً من موافقة الرقابة عليه، وجد نفسه مضطراً لأن يحدث تبديلاً على الأقل في المشهد الأخير حين تذهب أولغا بالقطار إلى موسكو حاملة الشريط المصور معها فيما يطاردها رجال الروس البيض المعادين للثورة. ففي المشهد الأصلي تصرخ أولغا من على متن القطار قائلة لمطارديها: أنا لست معهم، أنا معكم! أما في المشهد البديل الذي صور في اللحظات الأخيرة، وأضيف إلى الفيلم لينال ترخيصاً بالعرض، فإن أولغا توجه للفرسان المطاردين عبارات بالكاد يسمعونها أو نسمعها، ولكننا نفهم من بينها كلمة تهمس بها: يا لكم من حيوانات!