لم يجد علي فاضل (45 عاماً) الذي يعاني مشكلات في القلب، غير الانتظار ثلاثة أشهر للحصول على موعد إجراء قسطرة في القلب بإحدى مستشفيات بغداد الحكومية، مما اضطره الى تحمل الآلام يومياً لحين بلوغه الموعد المثبّت.
فاضل الذي يعمل سائق سيارة أجرة لا يستطيع تحمل كلف الجراحة في المستشفيات الخاصة، التي باتت الخيار الوحيد المتاح له ولكثير من العراقيين من ذوي الدخل المحدود، الذين ربما يفقد كثير منهم حياتهم بسبب عجزهم عن توفير الأموال لإنقاذ أنفسهم عند أي أزمة صحية يمرون بها.
مشكلات كبيرة
ومنذ فرض العقوبات الاقتصادية على العراق في أغسطس (آب) عام 1990، تراجعت خدمة المستشفيات الحكومية إلى حد كبير بسبب نقص الأدوية والمعدات، والتي استمرت في العمل لتقدم خدمات محدودة تحسنت بشكل ملحوظ بعد تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء عام 1996، وهو اتفاق وقع بين الحكومة العراقية والأمم المتحدة، يبيع العراق بموجبه النفط للحصول على الغذاء، بعد الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه عام 1991 إثر غزوه الكويت.
المستشفيات العراقية تعرضت إلى مشكلات كبيرة بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، تمثلت بنهب معداتها وتدخل الأحزاب والجماعات المسلحة في اختيار الكادر الإداري الذي يعمل فيها، إلى حد الإشراف على تعيين عمال الخدمة وفق محاصصة حزبية، مما جعلها تشهد فوضى إدارية وتراجعاً كبيراً في الخدمات التي تقدمها.
وعلى الرغم من تخصيص أموال طائلة طوال الأعوام الماضية لتحسين الخدمات المقدمة في المستشفيات الحكومية، إلا أنها لم تشهد تطوراً واضحاً في عملها من ناحية المباني أو زيادة عدد الأسرة لاستقبال المرضى، مما جعلها عاجزة عن التعامل مع الضغط الكبير عليها، نتيجة ارتفاع عدد سكان العراق بنحو أكثر من الضعف مذ تم إنشاء هذه المستشفيات في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
انتظار طويل
ويتحدث خالد عبد علي (62 عاماً) عن معاناته في الانتظار ساعات طويلة للحصول على دوره في إجراء الفحص والتحاليل داخل مدينة بغداد الطبية، بسبب زخم المراجعين وقلة الكادر الصحي، وخصوصاً الأطباء الاختصاصيين الذي يعمل أغلبهم في القطاع الصحي الخاص، ولديه أوقات عمل محددة في المستشفيات الحكومية.
وبحسب هيئة استثمار بغداد، فقد رخصت إنشاء 17 مشروعاً صحياً، أغلبها لمستشفيات خاصة في مختلف الاختصاصات خلال السنوات القليلة الماضية، أنجز أغلبها .
ويضيف عبد علي أن "المشكلة ليست في ساعات الانتظار الطويلة فقط، بل في عدم وجود الدواء داخل مدينة الطب، مما يجعلني أذهب لشرائه من الصيدليات الأهلية".
ويعود بناء مدينة بغداد الطبية التي تقع على ضفة نهر دجلة في جانب الرصافة من بغداد إلى العام 1961، وتم تطويرها من خلال إنشاء عدد من المستشفيات الحديثة بقربها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لتكون أكبر مجمع طبي يضم عدداً من المستشفيات التخصصية في العاصمة بغداد.
الأعداد كبيرة
بدوره، يتحدث المعاون الطبي علي عبدالحسن، والذي يعمل في مستشفى الطوارئ، عن الأعداد الكبيرة التي تصل يومياً على الرغم من محدودية قدرات المستشفى سواء من الكوادر أو الأسرة.
ويضيف، "حاجتنا ضرورية إلى كوادر جديدة كون قسم غير قليل منها تم نقله إلى مستشفيات عزل المصابين بكورونا، فضلاً عن تحويل جزء من تلك المستشفيات أو الردهات لعزل المصابين، مما زاد من حجم معاناتنا وكثرة الضغط علينا، كون أسرّة الطوارئ ممتلئة في بعض الأحيان".
ويزداد عدد المراجعين ليلاً الى أقسام الطوارئ بحسب عبدالحسن، والذي عزاها إلى انتهاء عمل المستشفيات صباحاً واستقبال هذه الأقسام الحالات الطارئة، لافتاً إلى أن التعامل معها يكون وفق الإمكانات المتوافرة في هذه الأقسام.
الفساد أوقف المشاريع
ويبدو أن الفساد والإهمال كانا السبب الرئيس في عدم إنجاز عدد من المستشفيات الحكومية الجديدة التي بدأ العمل بأغلبها في العاصمة بغداد منذ العام 2008، ولم يتم حتى الآن إنجاز واحدة منها على الأقل لتخفيف الزخم الكبير من قبل المواطنين على المؤسسات الصحية، مما أدى إلى تراجع خطير في تقديم الخدمات للشرائح المتوسطة والفقيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن أبرز هذه المشاريع المتلكئة منذ عقد من الزمن مستشفى القوات المسلحة سعة 400 سرير وسط بغداد، ومستشفى ابن سينا التعليمي 600 سرير، والحرية 400 سرير، الشماعية 400 سرير، والشعب 200 سرير، والفضيلية 200 سرير، والنهروان 200 سرير، والحسينية 200 سرير، والمعامل 200 سرير .
وهناك سلسة من مشاريع المستشفيات الحكومية المتلكئة في مدن النجف وكربلاء والعمارة والكوت والبصرة والديوانية والمثنى، تتسع كل واحدة منها لنحو 400 سرير، وهي كافية لحل الأزمة الصحية التي تعانيها هذه المحافـظات.
الأطباء أسلحتهم قديمة
ويقول نقيب الأطباء العراقيين جاسم العزاوي، إن الأطباء يحاربون بأسلحة تم إنشاؤها عام 1985، مشيراً إلى أن تدهور البنى التحتية للمؤسسات الصحية يقابله أيضاً عدد قليل من الأطباء بالنسبة لعدد سكان العراق.
ويضيف العزاوي أنه "من غير الصحيح تحميل الأطباء مسؤولية تدهور الوضع الصحي بالعراق، لاسيما وأنهم يمارسون المهنة في بيئة عمل غير صالحة ناتجة من تدهور النظام الصحي، ونعمل وفق إمكانات تم إنشاء أحدثها عام 1985"، مبيناً أن متطلبات الصحة ازدادت كذلك عدد السكان، والمستلزمات الطبية دخلت في خانة عدم الصلاحية".
اغتيال 360 طبيباً
هذا كله يضاف إلى حوادث اغتيال 360 طبيباً عراقياً منذ العام 2003، وابتزاز واختطاف الآلاف منهم، إضافة إلى وفاة 150 طبيباً بمضاعفات كورنا بحسب العزاوي، الذي أكد أن عدد الأطباء قل ولم يزدد في العراق بسبب الضغوط الشديدة التي يواجهونها، كاشفاً أن الطبيب عاجز عن تقديم الخدمات الصحية الحقيقية، ويتعرض 80 في المئة منها للإساءة النفسية والجسدية، فضلاً عن محاسبة عشائرية وتهديد شخصي إذا ما اتّهم أحد الأطباء بالتقصير من دون انتظار أوامر القضاء أو اللجنة الطبية المتخصصة.
الجهات العليا سبب الحرائق
ويتابع العزاوي "نشعر بالألم عندما نشاهد ما حدث من حرائق في المؤسسات الصحية التي سببها الإدارة الصحية السيئة والنظام الصحي المتهالك، وعدم توفر مستلزمات الأمان والحرائق في المستشفيات، لافتاً إلى أن مدير المستشفى وهو طبيب يطلب من الجهات العليا توفير هذه المستلزمات، إلا أنها غالباً لا يتم توفيرها وهذا ليس ذنب مديري المستشفيات.
وشهد العراق خلال العام الحالي حريقين في مستشفيين للعزل الصحي، الأول في مستشفى ابن الخطيب ببغداد والثاني بمستشفى الحسين في مدينة الناصرية، أسفر عن مقتل أكثر من 140 شخصاً بحسب إحصاء لوزارة الصحة العراقية.
فيما قدم العديد من مديري مستشفيات المحافظة استقالتهم من مناصبهم منذ الحريق المميت.
وبحسب المسؤول العام عن الهيئات الصحية سعد المجيد، فإن مديري ونواب مديري ما لا يقل عن خمس مستشفيات في المحافظة غادروها، تاركين إدارة المؤسسات لموظفين أقل أهلية.
وأوضح أن الدافع هو الخوف من تحميلهم المسؤولية في حال وقوع كارثة جديدة مع تتالي الحرائق في مستشفيات العراق المتداعية.
خارج المواصفات العالمية
ويرى أن إدارة المؤسسات الصحية سيئة، وهي جزء من الواقع العراقي الذي تحوم حوله كثير من الانتقادات، وتلعب الأحزاب ومصالحها العشائرية دوراً فيه، مبيناً أن العراق خارج المواصفات العالمية، ومتذيل القائمة العالمية في ناحية الأمن الصحي كون نسبة الأطباء بالنسبة لعدد السكان 1.7 بالألف.
واعتبر العزاوي أن هذه مشكلة كبيرة مقارنة مع الدول المجاورة، إذ تبلغ النسبة ثلاثة الى أربعة أضعاف عما هو موجود عليه في العراق، فضلاً عن عدد الأسرّة والمستشفيات التي تحتاج زيادة أربعة أضعاف، وبعضها خرج عن الخدمة بعد عام 2003 مثل المستشفيات العسكرية.
وفقد العراق جميع مستشفياته العسكرية منذ 2003، إذ دمر مستشفى الرشيد العسكري جنوب بغداد بالكامل، وتم نهبه بعد أن كان من أضخم المؤسسات الصحية في البلاد، إذ يتسع لـ 2000 سرير، فضلاً عن تحويل باقي المستشفيات العسكرية إلى مراكز صحية مدنية، مما جعل المستشفيات العراقية تشهد زحاماً كبيراً سواء من المدنيين أو العسكريين العراقيين في مختلف قيادات القوات المسلحة العراقية.
إعادة النظر بالواقع الصحي
ويدعو عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية فالح الزيادي إلى ضرورة إعادة النظر للواقع الصحي بالعراق بكامل تفاصيله، فيما أشار إلى أن مخصصات وزارة الصحة تبلغ خمسة في المئة.
ويبين الزيادي أن الحصار الذي مر به البلد قبل ثلاثة عقود والحروب التي خاضها العراق أثرت في الوضع الصحي مما أدى الى انعدام الثقة بالخدمات المقدمة للمواطن"، مشيراً إلى أن أهم أسباب تدهور الوضع الصحي هو تهالك المؤسسة الصحية الموجودة حالياً، وانهيار البنى التحتية فيها مقارنة بالتعداد السكاني في العراق.
انخفاض عدد الأسرّة
ويقول الزيادي إن هناك شحاً واضحاً بأعداد الأسّرة في أغلب محافظات العراق، مما أدى إلى استعانة وزارة الصحة بالمؤسسات الأخرى الساندة، مثل المؤسسة الدينية والاجتماعية لإنشاء الكرفانات الجاهزة التي لا تحتوي على مستلزمات الأمان والصحة والسلامة.
وأقرت الحكومة بداية الأسبوع بأن غالبية تلك الأروقة والمستشفيات لا تراعي شروط السلامة.
ويضيف الزيادي أن معدل الإنفاق الصحي على المواطن في العراق لا يتجاوز 150 إلى 200 دولار سنوياً، وهو يشمل رواتب موظفي منتسبي وزارة الصحة، معتبراً أن قلة التمويل وعدم تطوير الكوادر البشرية وكثرة الضغط على المنظومة الصحية وشح الأدوية، كلها أثرت في صحة المواطن.
ويتابع، "المواطن يحمّل الطبيب مسؤولية عدم وجود خدمات داخل المؤسسات، في وقت أن الجهات الحكومية والوزارة هي من تتحمل هذا التقصير"، مشدداً على ضرورة إكمال بناء المستشفيات غير المكتملة لسد النقص بالأسّرة وتحسين البنى التحتية للمستشفيات وتطوير الموارد البشرية، من خلال رفد هذه المؤسسات الحكومية بالكوادر الصحية من أطباء وممرضين.
تمويل جهات سياسية
ويواجه القطاع الصحي مشكلة تحوله إلى مموّل لبعض الجهات السياسية على حساب المريض العراقي بحسب الزيادي، مما ينعكس سلباً على الواقع الصحي، لافتاً إلى عدم اعتماد مبدأ الكفاءة في اختيار الكوادر الإدارية والكادر المتقدم في الوزارة، لكون المقياس الخلفية السياسية.
8 تريليونات دينار
ويرى الزيدي أنه من الضروري إعادة هيكلة المؤسسات الصحية بالكامل، لأنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه سنشهد انهيار الواقع الصحي، موضحاً أن حجم تخصيصات وزارة الصحة هذا العام 8 تريليونات دينار بحدود (5.4 مليار دولار) وهي تمثل 5 في المئة من موازنة البلاد.
الأموال والإدارة
وذكرت هيئة النزاهة الاتحادية في تقرير أعدته لتقصي الحقائق عن أسباب عدم إنجاز المستشفيات الحكومية الجديدة، إلى تخصيص الأموال اللازمة في الموازنة العامة لإكمال تنفيذ عقود المستشفيات ذات نسب الإنجاز المتقدم أو قيد الإنشاء، محذرة من أن بقاءها على حالها من دون إنجاز يسبب زيادة نسب اندثارها وصعوبة معالجتها.
وبين التقرير أن كثرة ملاحق العقود الموقعة مع الشركات المنفذة بهدف إنجازها أو إضافة تعديلات على المشاريع بالمجمل، أثرت سلباً في البنود الأصلية للعقود، مما أسهم في زيادة مدة إنجاز المشاريع لسنوات طويلة وزيادة كلفتها، مشدداً على ضرورة إشراف وزارة التخطيط على تنفيذ عقود المستشفيات.
مراجعة المستشفيات الأهلية
وتابع التقرير الذي سلم إلى رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، أن هناك تلكؤاً واضحاً في عمل معظم الشركات المنفذة للمستشفيات، وعدم إنهاء أعمالها ضمن المدد المحددة لها في العقود المبرمة بينها وبين وزارة الصحة أو المحافظات، مبيناً أن أغلب تلك المشاريع كانت قبل الأزمة المالية وتوقفت عام 2015، مما أدى إلى وجود نسب اندثار عالية في بعضها خصوصاً تلك التي لم تصل إلى نسبة إنجاز 30 في المئة.
وكشف التقرير عن وجود قضايا جزائية لدى دائرة التحقيقات في الهيئة، تخص مستشفيات سعة 400 سرير، لتحديد أسباب التأخير والأشخاص المتسببين ببطء إنجاز تلك المستشفيات، لافتاً إلى أن التلكؤ في إنجاز المستشفيات اضطر المرضى إلى مراجعة المستشفيات الخاصة لتلقي العلاج.