أسهم اكتشاف نحو نصف طن من الكوكايين وهو يطفو على سطح المياه قبالة مدينة وهران الساحلية في الجزائر أواخر الشهر الماضي، في تسليط الضوء على الأهمية المتزايدة للدور الذي تضطلع به منطقة شمال إفريقيا، كنقطة عبور حيوية بالنسبة إلى مهربي المخدرات، الذين يحاولون بلوغ الأسواق الأوروبية والشرق أوسطية المربحة.
هذه الشحنة الضخمة من الكوكايين هي الثانية التي يتم ضبطها في الجزائر. ففي مايو (أيار) من العام 2018 صادرت السلطات هناك أكثر من 700 كيلوغرام من المخدرات خبئت على متن سفينة شحن كانت تنقل لحوماً مجمدة من البرازيل، في سعي من المهربين إلى إدخالها إلى وهران بعدما رست في إسبانيا.
ضبط عملية التهريب هذه تسبب بفضيحة على المستوى الوطني، وأدى إلى اعتقالات جماعية في مختلف أنحاء الجزائر. ومع آخر حمولة من هذه المواد وهي 490 كيلوغراماً (1.080 رطلا) من الكوكايين، التي يُتوقع أن يكون المهربون قد تخلوا عنها من خلال إلقائها في البحر قبيل صعودهم الى السفينة، اقتصر الرد على مصادرتها من جانب أجهزة الأمن في الدولة على إبداء القليل من القلق والانزعاج.
وفي هذا الإطار، يبدو أن ظهور وباء "كوفيد-19" وتفشيه على مستوى الكوكب، لم يكن له انعكاس كبير على شهية العالم لتعاطي مادة الكوكايين، فقد أظهرت دراسات لمياه الصرف الصحي في عدد من المدن الأوروبية خلال الجائحة، أن استهلاك الكوكايين ومادة MDMA (تُسمى أيضاً "إكستاسي"، وهي من المنشطات التي لها تأثير نفسي مشتق من الأمفيتامين لأنها تحفز الجسم على إفراز السيروتونين والدوبامين)، قد عاد إلى مستوياته المعتادة ما قبل الوباء بعد تراجع أولي، بحيث تعافت شبكات التهريب وانتعشت طرق الإمداد على إثر انقطاع حصل في وقت مبكر.
في غضون ذلك، نبهت دوائر "يوروبول" Europol (وكالة إنفاذ القانون في الاتحاد الأوروبي)، إلى أن حال عدم الاستقرار الاقتصادي التي تسبب بها الوباء، أسهمت في تنامي الفساد، وفتحت الباب أمام موجات "غير مسبوقة" من الكوكايين للدخول إلى دول أوروبا. وشرحت إيلفا جوهانسون المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية عند إطلاق التقرير البارز للوكالة الذي يصدر كل أربع سنوات في أبريل (نيسان) الماضي، كيف تسببت العصابات الإجرامية "بسقوط ضحايا أبرياء نتيجة التراشق بالأسلحة النارية، واستهدفت بالقتل صحافيين ومحامين في هجمات مباشرة على ديمقراطياتنا"، على حد تعبيرها.
ومعلوم أن مهربي الكوكايين يسلكون طرقاً عشوائية في عمليات نقله من مزارع نبات الكوكا في أميركا الجنوبية إلى أوروبا. وكانت الشحنات حتى وقت قريب مقسمة تقريباً ما بين أطراف تسافر براً من غرب أفريقيا ووسطها وصولاً إلى أوروبا، وأخرى تسافر من طريق البحر، لكن منذ أن اجتاح العنف المرتبط بجماعات إسلامية متطرفة أجزاء كبيرة من دولتي مالي وتشاد، أصبحت الطرق البرية غير آمنة، وكانت الطرق البحرية تشكل بدائل يمكن للمهربين الاعتماد عليها لإيصال بضاعتهم إلى أوروبا، وما بعدها إلى دول الشرق الأوسط، إلى أن برزت دول مثل الجزائر والمغرب وأخيراً ليبيا، على الساحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا المجال، يوضح المحلل في شبكة "المبادرة العالمية" Global Initiative رؤوف فراح، وهي منظمة تتعقب الشبكات الإجرامية العابرة للحدود، أن "هذا التمدد الساحلي ما بين وهران في الجزائر والدار البيضاء في المغرب يمثل حقاً القوس الذهبي للمهربين المعاصرين للكوكايين"، ويضيف أن "الحاويات تدخل إلى الموانئ في شمال أفريقيا، حيث يتيح الفساد هناك إعادة توضيب المخدرات قبل أن تواصل طريقها في اتجاه دول أوروبا، على الأرجح إسبانيا أو مرسيليا في فرنسا، أو إلى أسواق المخدرات في منطقة الشرق الأوسط".
واستناداً إلى فراح، فإن مركز الثقل يظل إلى حد كبير على الرغم من الطبيعة الدولية لهذه التجارة، لدى المنتجين في أميركا الجنوبية، ففي قضية مصادرة شحنة الكوكايين التي حصلت في العام 2018 في وهران، كانت حمولة اللحوم التي اعترضتها السلطات الجزائرية موجهة إلى رجل الأعمال الجزائري كمال شيخي المعروف أيضاً بلقب "البوشي" (اللحام)، والذي استطاع أن يكتسب سمعة مرموقة كبائع جملة معروف، بعد أعوام طويلة من استيراد اللحوم الحلال بطريقة منتظمة من دول أميركا الجنوبية إلى الجزائر. ويقول فراح إنه "يبدو أن شيخي ليس هو من قرر فجأة التحول إلى تجارة الكوكايين، والواقع أن المسألة هي معاكسة، إذ إن شبكات التهريب في أميركا الجنوبية وتحديداً البرازيل، هي التي قامت بالتقرب من شيخي طالبة العمل معه".
إلا أن النتائج كانت في كلا الحالين مأساوية بالنسبة إلى الجزائر، فقد تم القبض على كمال شيخي وأشقائه، كما على مجموعة من شركائه في الأعمال. وبدا على الأثر أن مخالب الشبكة ممتدة بعيداً وثبُت تورط مدعين عامين ورؤساء بلديات ومسؤولين في أجهزة أمنية، واضطرت سلطات البلاد إلى إعادة هيكلة أجهزتها الأمنية نتيجة لذلك، على نحو يعكس مدى اعتبار مسألة تهريب المخدرات أحد أكبر التهديدات الأمنية في البلاد.
وفيما لا يمكن اعتبار شبكات تهريب حشيشة الكيف عبر شمال أفريقيا وأوروبا جديدة على الإطلاق، اكتسب الكوكايين مع الوقت دوراً مهيمناً في سوق تهريب المخدرات في المغرب منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وفي هذا الإطار، يوضح لوران لانييل، وهو محلل علمي رئيسي في "المركز الأوروبي لرصد المخدرات والإدمان عليها" European Monitoring Centre for Drugs and Drug Addiction، أنه "يبدو بشكل عام أن الارتباط الملموس لتجارة الكوكايين بشمال أفريقيا يستفيد من الشبكات القديمة التي تم إنشاؤها لتهريب الحشيش من المغرب إلى أوروبا".
ويضيف لانييل، "مهما كانت الحال فإن المغرب ما زال يشكل نقطة جذب للكوكايين المتوجه إلى أوروبا، وبلد عبور رئيس في شمال أفريقيا"، لكن يبدو في المقابل أن الجزائر وغيرها من الدول أخذت تظهر على خريطة الصدارة، كما يوضح هذا المحلل العلمي الذي يرى أن "الاتجاه الجديد يتمثل في تهريب الكوكايين إلى ليبيا، ومن المرجح أن يعاد تصديره إلى أسواق أخرى قد تشمل أوروبا". وسلط الضوء على حالات ضبط الكوكايين داخل ليبيا، وكذلك شحنات المخدرات المصادرة المتوجهة إلى ليبيا قائلاً إن "كمية الـ 510 كيلوغرامات من المخدرات التي تم ضبطها في مالطا في كانون الأول (ديسمبر) العام 2020، كان مصدرها كولومبيا وكانت متوجهة إلى طرابلس".
وبمجرد وصول المواد إلى أوروبا تتدفق شحنات الكوكايين عبر القارة، لتحط رحالها في نهاية المطاف على شواطئ بريطانيا، وتستهلك المملكة المتحدة، عاصمة الكوكايين في أوروبا، 117 طناً من المخدرات سنويا، في زيادة تتخطى نسبة 300 في المئة على مدى أقل من عقد من الزمن، وكما هي الحال مع شمال أفريقيا فإنها تُنقل بالأساس إلى المملكة المتحدة من طريق البحر.
وفي هذا السياق، قال متحدث باسم "الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة" National Crime Agency لصحيفة "اندبندنت" إن "معظم السلع من حيث الحجم تأتي من طريق الشحن البحري ضمن حاويات، فيما شهد استخدام المسار الجوي تراجعاً خلال الأشهر الـ 16 الماضية من تفشي الجائحة، لكنه سيعاود نشاطه بمجرد أن يتم رفع قيود الإغلاق والعودة إلى المستويات السابقة، لكن يُتوقع أن يكون بحجم منخفض وبوتيرة مرتفعة، وباستخدام شركات البريد السريع، وأطقم التعبئة والتوضيب (مصطلح يشير إلى الفرق التي تتولى فتح رزم المخدرات وإعادة تعبئتها وتغليفها).
تجدر الإشارة أخيراً إلى أنه بعدما أصاب الشلل الناجم عن الوباء والحرب دول المنطقة، وفي وضع المغرب والجزائر الخصومات الداخلية المريرة، فإن فرص اعتماد بلدان شمال أفريقيا استجابة موحدة إزاء هذا التهديد الأخير تبدو ضئيلة للغاية، وإضافة إلى ذلك لا يزال الطلب كبيراً على المخدرات على الرغم من تفشي فيروس "كورونا" والقيود المفروضة على السفر والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ويبدو أنه من غير المرجح أن يتراجع في المستقبل القريب.
© The Independent