سبق عملية الملء الثاني لسد النهضة الإثيوبي، الذي أعلنت سلطات أديس أبابا عن اكتماله بنجاح، توتر وسجال بين دولة المنبع (إثيوبيا)، من جهة، ودولتي المصب (مصر، والسودان) من جهة أخرى، بعد فشل جولات عدة من المفاوضات المباشرة، التي طالبت خلالها القاهرة والخرطوم بإبرام اتفاق قانوني ملزم قبل بدء المرحلة الثانية من ملء السد بشكل أحادي، وهو المقترح الذي ظلت ترفضه أديس أبابا، باعتبار أن السد يقع ضمن أراضيها، وليس من حق أي دولة إلزامها باتفاق مشروط بشأن التشغيل والملء، فضلاً عن قولها "إنها لم تبنِ هذا السد لاحتكار مياه النيل الأزرق وبيعها من أجل الهيمنة على السودان ومصر كما يدعيان ذلك".
لكن هل بالفعل تضرر السودان جراء الملء الثاني لسد النهضة؟ وكيف ينظر الجانب السوداني لمستقبل المفاوضات التي يجب أن يدعو لها الاتحاد الأفريقي خلال الفترة المقبلة بموجب التوجيه الصادر من مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الذي انعقد في الثامن من يوليو (تموز) الحالي في مدينة نيويورك، لبحث أزمة سد النهضة؟
تحوطات وترتيبات
في هذا السياق، قال وزير الري السابق في السودان عثمان التوم، "في تقديري أن عملية الملء الثاني لسد النهضة لم تنته بعد، بحسب ما هو مخطط لها من الجانب الإثيوبي بأن تكون في حدود 13.5 مليار متر مكعب، فالمرجح أنه تم إيقاف عملية الملء بعد الوصول إلى تخزين 3.5 مليار متر مكعب فقط حتى الآن من المياه الواردة على النيل الأزرق من الهضبة الإثيوبية، ويرجع ذلك إلى عدم قدرة السد على تمرير كمية المياه المقررة، نظراً لعدم تمكن السلطات الإثيوبية المختصة من بناء الحائط الأوسط عند مستوى 595 متراً فوق سطح البحر، حيث شيد الحائط في مستوى 575 متراً، وبالتالي، جاء بناء هذا الحائط ناقصاً قرابة 20 متراً".
وبين التوم أن السودان تضرر بالفعل من الملء الثاني لهذا السد، لأنه قام بعمل ترتيبات وتحوطات على أساس أن إثيوبيا ستقوم بتخزين كامل كمية المياه التي أعلنت عنها في هذه المرحلة وهي 13.5 مليار متر مكعب، لذلك حرم من الاستفادة من المياه الواردة له، لأنه، وفقاً لتلك التحوطات، احتفظت إدارة السدود السودانية بنحو مليار ونصف مليار متر مكعب من المياه في خزاني الروصيرص وجبل أولياء، تخوفاً من حدوث نقص في المياه الواردة من الهضبة الإثيوبية، وبالتالي، تتضرر المشاريع الزراعية في السودان القائمة على ضفاف النيل الأزرق، لذلك جاء الاحتفاظ بهذه الكمية من المياه على حساب التوليد الكهربائي في البلاد.
ضرورة للمفاوضات
وأكد التوم أنه في ضوء هذه الحسابات والمعادلات أصبحت هناك ضرورة شديدة لمواصلة المفاوضات بين الأطراف الثلاثة (مصر، السودان، وإثيوبيا) التي وجه مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الأخير باستئنافها تحت رعاية الاتحاد الأفريقي من أجل التوصل لاتفاق ملزم بشأن تشغيل وملء هذا السد، بخاصة وأنه تبقى نحو 10 مليارات متر مكعب من المياه لم يتم تخزينها في المرحلة الثانية، ما يطرح تساؤلاً ما إذا كان بمقدور الجانب الإثيوبي تخزين هذه الكمية المتبقية، السنة المقبلة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن السودان معرض لحدوث فيضان خلال الفترة المقبلة متمنياً ألا يكون كبيراً، لأن كل المياه الواردة للنيل الأزرق بسبب الأمطار الغزيرة التي تهطل بغزارة هذه الأيام من الهضبة الإثيوبية سيتم تمريرها باتجاه السودان، وتابع وزير الري السوداني السابق، "في الحقيقة، المؤشرات تدل إلى أن فيضان هذا العام سيكون فوق الوسط، لكن هذه التنبؤات والمعلومات غير دقيقة، ومعروف أن الفيضان يختلف من سنة لأخرى، وهو أمر يتعلق بكميات مياه الأمطار التي ستهطل ومدى استمراريتها، بيد أن المعرفة والخبرات المتراكمة للخبراء والفنيين السودانيين جراء ما حدث من فيضانات سابقة، فإن بمقدور هؤلاء الخبراء والفنيين تطوير أساليب تمكن من مقاومة أي حجم فيضان مهما كانت قوته".
ضغوط ذكية
بدوره، أوضح أستاذ المياه في كلية الهندسة في جامعة الخرطوم، والمستشار السابق للوفد السوداني في مفاوضات سد النهضة الصادق شرفي، أن "المرحلة الثانية لملء سد النهضة بدأت في أبريل (نيسان) الماضي، وتجنب السودان الأضرار الكبيرة التي كانت ستتعرض لها المشاريع الزراعية جراء هذا الملء بحجز كمية من المياه في سدوده، وأوقف أعمال التوليد الكهربائي لتفادي نقصان المياه"، وقال إن هناك تدخلات وضغوطاً ذكية غير مباشرة حدثت من دول كبرى لديها مصالح مع الجانب الإثيوبي، قادت إلى أن يكون الملء الثاني ليس بالحجم المطلوب والمقرر له 13.5 مليار متر مكعب، ما جعل هناك توافقاً وتلاقياً بين الأطراف الثلاثة، وقلل في الوقت نفسه الضرر عن دولتي المصب (مصر، والسودان)، فضلاً عن أنه يتيح الفرصة بأن تأتي البلدان المعنية بأزمة السد إلى المفاوضات المتوقع استئنافها خلال الفترة المقبلة بواسطة الاتحاد الأفريقي.
تقاطعات ومصالح
ونوه شرفي إلى أن تقاطعات ومصالح الدول الكبرى جعلت هذا الموضوع أكثر تعقيداً، وبالتالي، فإن الوضع الحالي للملء الثاني للسد يعتبر أخف أنواع الضرر عن مصر والسودان، آخذاً في الحسبان أهمية فوز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في الانتخابات العامة، والدليل على ذلك، عدم إعلان أديس أبابا حجم المياه التي قامت بتخزينها في هذه المرحلة، إذ إنها التزمت الصمت من دون الإفصاح عن الكمية التي خزنت أو مجرد تقديرات لها، فواضح، أن هناك تنسيقاً تم بهذا الخصوص بحيث لا تتأثر الأطراف المعنية.
وأبدى أستاذ المياه في كلية الهندسة في جامعة الخرطوم، في الوقت نفسه، عدم تفاؤله في توصل الدول الثلاث إلى حل ينهي هذه الأزمة خلال السنوات المقبلة، من منطلق أن أديس أبابا لا ترغب في التوقيع على اتفاق ملزم لها مع الجانبين السوداني والمصري في ما يتعلق بتشغيل وملء السد، معتبراً أن الاتحاد الأفريقي غير جدير بتولي هذه المفاوضات، إذ إنه غير مهيأ لهذه الخطوة، إضافة إلى أنه ليست لديه خبرة في القضايا المتعلقة بنزاعات المياه، لكن إذا كان لا بد من قيامه بهذا الدور، فيجب أن يستعين بوسطاء (مسهلين) يقومون بتقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع.
وبشأن توقعاته بحدوث فيضان للنيل الأزرق هذا الموسم، قال المستشار السابق للوفد السوداني في مفاوضات سد النهضة، "ممكن أن يحدث فيضان، فهذا أمر وارد، فلا أحد يعرف كميات الأمطار التي ستهطل واستمراريتها، ويجب ألا نحمل إثيوبيا ما يحدث، فأحياناً، قد تحصل أخطاء من الإدارة المعنية بالسدود، وفي النهاية، يتحمل آثارها المواطنون، لذلك، كان من المفترض دراسة إمكانية حدوث فيضان من قبل خبراء محايدين حتى تكون التوقعات والمعلومات والحلول واقعية".
الأمر الواقع
وكانت السلطات السودانية أعلنت رفض إجراءات إثيوبيا الأحادية وسياسة فرض الأمر الواقع رداً على إعلان أديس أبابا اكتمال الملء الثاني لسد النهضة، وأكدت وزارة الري والموارد المائية السودانية في بيان أن البديل الأفضل لهذا النهج الإثيوبي الذي لن يؤدي إلا إلى الإضرار بالعلاقات التاريخية المميزة بين البلدين والشعبين الشقيقين، مواصلة التفاوض بنية حسنة، للتوصل لاتفاق قانوني ملزم وشامل، يحافظ على مصالح كل الأطراف ويخاطب مخاوفها، لا سيما التشغيل الآمن لسد الروصيرص، وشددت الوزارة على إيمانها بأن الوقت لم يفت بعد، وأن التوصل للاتفاق المرجو ضروري جداً ومتاح، إذا توافرت الإرادة السياسية.
ولفتت إلى أنها بدأت منذ أشهر بالتحسب واتخاذ الإجراءات الفنية والإدارية المناسبة للحد من الآثار السلبية الفعلية والمحتملة للملء، منوهة إلى أنه لولا التحوطات الفنية بتغيير نظم التشغيل في خزاني الروصيرص وجبل أولياء لكانت النتائج كارثية لجهة توفير المناسيب المطلوبة لمحطات مياه الشرب وتوليد الكهرباء.
رسالة أميركية
وفي السياق نفسه، وجهت السفارة الأميركية في الكونغو الديمقراطية رسالة إلى إثيوبيا بعد قيامها بالملء الثاني للسد، أكدت خلالها ضرورة حل هذه الأزمة عبر المفاوضات السلمية، وقالت السفارة، إن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أشار خلال محادثة هاتفية مع رئيس الكونغو فيليكس تشيسكيدي، الذي يشغل حالياً رئاسة الاتحاد الأفريقي، إلى أهمية دور الاتحاد في الحد من الصراع والتوسط في أزمة سد النهضة، مؤكدة أن الطرفين أعربا عن التزامهما بالعمل معاً حتى تتمكن الكونغو من تسخير إمكاناتها نحو الاستمرار في مسار إيجابي يضمن حل أزمة السد.
فرحة إثيوبية
وكان وزير الري الإثيوبي سيشلي بيكلي، قال بمناسبة اكتمال أعمال الملء الثاني لسد النهضة، "لقد انتهت عملية الملء للسنة الثانية في سد النهضة، وتدفقت المياه إلى قمة السد، مبروك للشعب الإثيوبي ولأصدقاء بلادنا، فنجاح عملية الملء الثاني تعني أن لدينا ما يكفي من المياه لتشغيل توربينين"، مؤكداً أن كمية المطر التي تهطل هذا العام هائلة، ما يعني أنه يمكننا أن نفهم مدى عظمة نعمة الخالق وكيف يساعدنا، وأضاف، "لقد قمنا بكثير من العمل هذا العام للوصول إلى هذه النقطة، نحن نعمل بجد لإنتاج التوربينات المقبلة، وسنكون قادرين على إكمال ذلك في الأشهر المقبلة"