اندلعت حرب كتابة "السيرة الذاتية" أو ما اصطلح على تسميته بـ "المذكرات" في الجزائر منذ بداية التعددية السياسية، أي في العام 1989، بمجرد أن فُتح المجال السياسي لإنشاء أحزاب سياسية، وسمح بتأسيس صحف خاصة، بعدما كانت الدولة -النظام أو الدولة- السلطة هي صاحبة جميع الجرائد والوسائل الإعلامية الأخرى المسموعة والمرئية. مع بوادر هذا الجو الجديد الذي تنفس هواء التعددية، بدأت بعض الشخصيات العسكرية الثقيلة في تاريخ الثورة التحريرية، وفترة بناء الدولة الوطنية كتابة مذكراتها، كما دخلت على خط هذا الأدب الاعترافي شخصيات سياسية كانت في مركز القيادة بالنسبة إلى النظام الجزائري، من رؤساء حكومات ووزراء وازنون وشخصيات الظل الفاعلة، وقد شرعوا في كتابة سيرهم الذاتية مفككين مسيراتها النضالية والمؤسساتية، التي تشكلت في ضوئها صورة الجزائر في أيامها السعيدة، وفي أيامها الشقية المُرة، في حربها وسلمها.
من مذكرات وزير الدفاع الأسبق خالد نزار، مروراً بمذكرات علي كافي الذي تولى رئاسة المجلس الأعلى للدولة بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف ومذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد ومذكرات بلعيد عبد السلام رئيس الحكومة ووزير الطاقة ومذكرات الرائد سي لخضر بورقعة أحد معارضي ونزلاء سجون الرئيس هواري بومدين ومذكرات عبد الحق برارحي، أحد قادة لجنة الدفاع عن الجزائر الجمهورية والمثقف محمد الميلي وصولاً إلى مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد وغيرها... فتح الجميع علبة الذاكرة السوداء، وأطلق البعض نيرانه الصديقة على إخوة البارحة وخلان الأمس.
كل واحد يريد أن يجعل من شخصه، ولو على الورق، قائداً فريداً لولاه لكانت الثورة التحريرية في خبر كان، وأن غيره كانوا هامشيين أو مخطئين أو ساذجين أو مشكوك في أمر نضالهم.
واشتعلت ظاهرة حرب "المذكرات"، التي يمكن تسجيل ملاحظتين أساسيتين حيالها:
الملاحظة الأولى هي أن غالبية كتاب هذه المذكرات يصرون على تقديمها باللغتين العربية والفرنسية. ومهما كانت اللغة التي حُررت بها هذه المذكرات، إلا أن الجميع يسهر على وصولها إلى خصومه، باللغة الفرنسية لخصومه المتموقعين في معسكر السلطة، باعتبار أن الفرنسية هي لغة الحكام في الجزائر، ونشرها ثانية باللغة العربية لتوصيلها إلى العامة الموجودة في قواعد بعض الأحزاب السياسية وبعض القوى المحافظة الإسلامية.
والملاحظة الثانية هي أن هذه المذكرات عرفت نسبة عالية من إقبال القراء عليها، في المرحلة ما بين 1998 وحتى 2008. وهم قراء ينتمون إلى جيل الثورة، أو ما بقي من هذا الجيل، وأيضاً قراء ينتمون إلى الجيل الذي تربى في خطاب "طُهرانية الثورة" الذي بثته المدرسة الجزائرية.
يمكن تفسير هذا الإقبال اللافت للقراء على هذا الأدب التاريخي، لأنه فتح باباً ظل موصداً بل ومحرماً، وأنتج خطاباً جديداً ضد خطاب التقديس الذي وضعت فيه بعض الأسماء من قادة الثورة، التي كانت إلى زمن غير بعيد منزهة عن كل خطأ وفوق كل نقد، بل إن نقدها يعد من باب التخوين. ويعود الفضل إلى هذا الأدب التاريخي، على الرغم من كل الحسابات الشخصية، في كونه استطاع أن يحرر ثورة التحرير من مربع المقدس، لينزلها منزل الإنجاز البشري بكل ما فيه من إيجابي وسلبي.
يوجه خالد نزار في مذكراته، خصوصاً في جزئها الثاني، التي تغطي تقريباً المرحلة الممتدة ما بين مظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 1988 وحتى نهاية فترة رئاسة المجلس الأعلى للدولة، مَدافعه العنيفة ضد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، مطلقاً عليه كل أوصاف الطيور. فهو الـ"صغير الذي لا يكبر إلا تحت جناح كبير" و"أناني" و"يحكم بالأسرة". كما أنه يجرد بوتفليقة من "الإنجاز السياسي" الذي هو "المصالحة الوطنية"، ويعتبرها من الأعمال التي حققها سلفه، أي اليمين زروال.
ويجيء علي كافي، رئيس المجلس الأعلى للدولة، ليوجه مَدافع مذكراته ضد الجنرال خالد نزار والعسكريين الذين تكونوا في المدرسة الفرنسية، أي الذين التحقوا بالثورة آتين من ثكنات عسكرية فرنسية. وربما تكون مذكرات كافي هي المذكرات التي خلقت جواً سياسياً خاصاً، وربما دفعت بكثيرين من القادة السياسيين والعسكريين إلى التفكير في كتابة مذكراتهم، إما دفاعاً عن أنفسهم أو للرد على أطروحاته. وقد تولى تحرير مذكرات كافي كل من الصحافي سعد بوعقبة والصحافي والجامعي عبد العالي رزاقي، وقد ذكرت كثيراً من الخلافات بين القادة أيام الثورة وبعدها، كقضية اغتيال عميروش والسي الحواس، وتصفية عبّان رمْضان من قبل رفقاء السلاح، ومسألة الصراع بين قوى الداخل والخارج وأولوية السياسي والعسكري. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المذكرات مُنعت بقرار من محكمة الجزائر العاصمة، وطلب من صاحبها حذف بعض الفقرات الواردة فيها، خصوصاً ما يتصل بشخصية رمضان والجنرال خالد نزار.
أما مذكرات رئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام، فقد ركزت أساساً على فترة رئاسته للحكومة التي دامت 13 شهراً، من يوليو (تموز) 1992 حتى أغسطس (آب) 1993، وفيها نقد واضح موجه أساساً وبشكل هوسي إلى "مُخّ" الجيش الوطني الشعبي الجنرال محمد التواتي، الشخصية العسكرية الأمنية المفصلية في تسعينات القرن الماضي. كما كشفت المذكرات عن الخلافات في الرؤية السياسية والاقتصادية، التي كانت قائمة بين المجلس الأعلى للدولة برئاسة كافي من جهة والحكومة التي كان يرأسها عبد السلام من جهة ثانية. كما كشفت عن الصراعات بين بعض أقطاب القيادة العليا، وفيها أيضاً حديث عن الخيار الاقتصادي الذي تبنته الحكومة، الذي لم يكن متجاوباً مع توجه المجلس الأعلى للدولة. وفي المذكرات، إحساس بمرارة الخيانة والمؤامرة التي مارسها ضده كل من الجنرال التواتي ورضا مالك الذي خلفه في منصبه، إذ نشعر كأن هناك تصفية حساب مع هذا الثنائي. ونظراً إلى هذا الإحساس بالمؤامرة، مؤامرة الصديق، فقد تناست المذكرات الحديث عن الهاجس الأمني الذي كان قلق الجزائريين، إذ كانت الجزائر تغرق شيئاً فشيئاً في الدم والتدمير، وإذا بالسلطة والصراع حولها تنسي الكاتب التعرض إلى هذه القضية المركزية.
أما مذكرات "شاهد على اغتيال الثورة" للرائد سي لخضر بورقعة، وهو واحد من قادة الثورة التحريرية من الصف الأول، ففيها وجّه مَدافعه أولاً ضد من سماهم بجنرالات رُبْع الساعة الأخير للثورة، الذين استولوا على السلطة، قادمين من الحدود المغربية والتونسية عشية الاستقلال، وصادروا الشرعية التي كانت تمثلها قوى الداخل. كما كشفت المذكرات عن نقد وحقد كبيرين تجاه الرئيس هواري بومدين الذي سُجن في عهده، ومن خلال ذلك نقد لـ "البومدينية" في السياسة والتسيير. مذكرات لخضر بورقعة شبيهة بمذكرات الطاهر زبيري، أحد الثوار الكبار، الذي حُكم عليه بالإعدام في سنوات الاستقلال الأولى، على اعتبار أنها مسكونة بهاجس "الشرعية الثورية" أكثر من هاجس بناء الدولة الوطنية، وفيها تركيز على "الزعامة الفردية"، كأنما "الثورة التحريرية" قامت على أكتافهما. ويقع كل من بورقعة والزبيري في خطأ فادح، فبقدر ما ينتقدان "الفردية" في التسيير، خصوصاً لدى هواري بومدين، إلا أن النزعة التي يريان عبرها صناعة التاريخ، هي رؤية "فردية" و"زعماتية".
أما مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وهي في جزأين، فقد عرض فيها بشكل روائي، وأيضاً بأسلوب أدبي راق، تاريخ أسرته وطفولته وتكوينه التعليمي والسياسي. وهذا لم يمنعه من الحديث عن ماضيه المرير، إذ إنه كان ضحية الاستعمار الذي سجنه، وضحية نظام الرئيس أحمد بن بلة الذي عذبه، وأيضاً مثار غيرة حاقدة من قبل محيط الرئيس هواري بومدين الذي كان يناور ضده، ويقصد في ذلك عبد العزيز بوتفليقة الذي كان الرجل المقرب لبومدين ولا يريد أن يقترب أحد من الرئيس سواه. وفي تصوري، تظل مذكرات الإبراهيمي هي النص الذي كُتب بعناية، بعيداً من الأسلوب الفج، حتى إن طريقة تصفية حساباته مع أعدائه وخصومه السياسيين، وما أكثرهم، كانت بطريقة رمزية ومترفعة عن السب والشتم، بل إنه تمكن من عرض أفكاره وخلافاته مع تيارات سياسية وأيديولوجية في السلطة، لكن من دون الوصول إلى التجريح العاري.
أما مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد، التي حررها الكاتب والإعلامي عبد العزيز بوباكير، فقد صدر منها جزء واحد بعنوان "ملامح حياة"، ولم يصدر حتى اليوم الجزء الثاني من دون أي تبرير لهذا المنع أو المانع من قبل الناشر، مع أن الساحة السياسية مفتوحة لجميع الأصوات. وفي الجزء الذي نُشر، يتحدث الشاذلي بن جديد عن طفولته وأسرته وتكوينه ومشاركته في الثورة، ويرد على من يتهمونه بأنه من نتاج الثكنة العسكرية الفرنسية. كما تتناول المذكرات الصراعات التي عرفتها الجزائر عشية الاستقلال، والحروب بين إخوة الثورة التي كادت أن تهدد الاستقلال الوطني من أساسه. كذلك، تتطرق إلى قصة اكتشاف مكان دفن جثتي العقيدين عميروش والسي الحواس، وذلك في قبو مقر قيادة الدرك الوطني، وإعادة دفنهما في مربع مقبرة الشهداء في العالية.
أخبرني أحد المسؤولين عن دار النشر التي تولت نشر عدد كبير من هذه المذكرات أو السير الذاتية، أنه بمجرد الإعلان عن اقتراب صدور مذكرات مناضل أو شخصية سياسية أو عسكرية، حتى تتوالى المكالمات الهاتفية من شخصيات أخرى. وسؤالها الأول: هل ذكرني في الكتاب؟ ماذا قال عني؟ في أي صفحة؟ وهل ذكر الحادثة كذا؟ وهل ذكر فلاناً؟
مع ذلك، تعد هذه المذكرات ظاهرة صحية في كونها أوجدت جواً من النقاش السياسي والأيديولوجي، حتى وإن كان "زعماتياً" بين قادة ثورة الجزائر من الرعيل الأول. وفي الوقت نفسه، استطاعت رفع المقدس عن الثورة في أوساط الجيل الجديد، لتؤكد أن التاريخ هو صناعة بشرية، فيه كثير من الأحقاد وتصفية الحسابات التي قد تستمر طويلاً. وفي حالة الجزائر، لا تزال مستمرة حتى الآن.
وتبقى بعض المدافع صامتة، لأن شخصيات مركزية في تاريخ الجزائر، شكلت المفاتيح الأساسية في إدارة الأمن والحرب والفتن والسياسة، رحلت عن هذا العالم من دون أن تكتب مذكراتها، وقد حملت معها أسراراً كثيرة على غرار عبد الحفيظ بوصوف، رئيس جهاز الاستخبارات في أيام الثورة، وهو يُعَد الصندوق الأسود لأسرار الثورة. وهناك قاصدي مرباح، الذي كان أيضاً على رأس جهاز الاستخبارات في الجزائر المستقلة، والذي اغتيل على يد الإرهاب في العام 1993 وعباسي مدني، زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي كانت السبب في الحرب الأهلية التي خلفت ربع مليون ضحية وعبد الحميد مهري، أحد حكماء ومنظري جبهة التحرير الوطني.