شهد العراق خلال الربع الأول من العام 2019 تنامياً ملحوظاً في مؤشرات الانتحار بين الشباب. ووفق المفوضية العليا لحقوق الإنسان، فإن 132 شخصاً قرروا الانتحار ولم ينج منهم سوى ثلاثة في عموم المحافظات، باستثناء بغداد وإقليم كردستان.
ويرى مراقبون في الشأن الاجتماعي أن تداول أخبار الانتحار عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تنهي الجهات المختصة تحقيقاتها يساهم كثيراً بالتغطية على جرائم القتل التي تظهر للعلن كأنها حوادث انتحار.
ووفق بيانات المفوضية العليا لحقوق الإنسان، فإن أعلى المؤشرات الرقمية بين صفوف المنتحرين كانت من نصيب الإناث، وقد تصدرتها محافظة كربلاء، بالاعتماد على بيانات وزارتي الداخلية والصحة. ولهذا، أصبح الشك يراود كثيرين من الناشطين في مجال حقوق الإنسان حول حوادث الانتحار بين الشباب، خصوصاً لدى الإناث.
التحقيقات الأمنية
قبل أن تشرع الجهات الأمنية بإجراء التحقيقات حول الحوادث، وتحديد ما إذا كانت انتحاراً أو جرائم قتل، تنشر وسائل التواصل الاجتماعي أخبار الحوادث على أنها انتحار، وغالباً ما ترفق بمعلومات مضللة، تبرر للضحية إقدامها على الانتحار.
ويقول المنسق الإعلامي لقيادة شرطة الديوانية عامر الركابي إن "عدد حالات الانتحار التي سُجلت في المحافظة منذ بداية العام 2019 إلى الآن بلغت 17 حالة، تم إنقاذ أكثر من أربع حالات منها، غالبيتهم من النساء".
وتنوعت أساليب الانتحار بين الحرق والشنق والطلق الناري، وفُسرت بأمراض نفسية أو مشاكل عائلية، وفق بيانات قيادة شرطة محافظة الديوانية.
وخلال شهر مايو (أيار) الحالي، تناقل ناشطون في محافظة الديوانية، جنوب العاصمة بغداد، خبر انتحار امرأة تبلغ من العمر 33 عاماً، شنقت نفسها من دون معرفة الأسباب. لكن بعد مضي مدة قليلة على وقوع الحادثة، كشفت نتائج التحقيقات الجنائية أن الحادث لم يكن انتحاراً، إنما جريمة قتل نفذها زوج الضحية وزوجته الأولى، اللذان حبكا الجريمة لتظهر على أنها انتحار.
وأضاف الركابي أنه في "السنوات السابقة، شهدت المحافظة جرائم مماثلة سُوّقت على أنها انتحار، لكن نتائج التحقيقات كشفت عن حقيقة مختلفة".
أموات متهمون
كثيرون من ضحايا جرائم القتل، على الرغم من وفاتهم، ظلوا متهمين بجرائم قتل أنفسهم وتعرضوا للسب والانتقاص والطعن بالشرف، خصوصاً النساء.
الناشطة النسوية ضحى باسم قالت "غالبية جرائم قتل النساء تعود إلى أسباب تتعلق بالشرف أو الإرث، بعضها اكتُشف فيما ظل الكثير منها سراً مدفوناً مع تلك الضحية التي تبقى وصمة العار تلاحقها ويُشهّر بها، لحماية الجاني من المساءلة القانونية. ولا يقتصر الأمر على النساء، بل يشمل الرجال أيضاً".
لكن وجود جرائم قتل سُوّقت على أنها انتحار، لا ينفي حقيقة تزايد حالات الانتحار التي أقدم عليها البعض لأسباب قد يُعتقد أنها لا ترتقي إلى أن تكون دوافع لقتل النفس، وأبرزها الفوارق الطبقية والإهمال الأسري والمدرسي وعوامل أخرى تتعلق بالفقر والبطالة.
بالنسبة إلى الباحث في الشأن الاجتماعي سامر شمعة، فإنّ "أهم دوافع الانتحار هي الضغوط المستمرة التي يرافقها الإحباط وخيبة الأمل في ظل وجود الفوارق الطبقية. فعندما يولد الإنسان ولا يجد أدنى مستلزمات الحياة، يفقد رغبته في الحياة".
ويضيف أن "الإنسان الذي يعيش تحت التهديد أو الابتزاز أو الثأر، وهذه ظواهر سائدة الآن في مجتمعنا، يلجأ مضطراً إلى الانتحار بعد أن يفقد طاقة المقاومة، في ظل غياب المساعدة".
ولا يمكن إغفال تأثير التناقضات التي يعيشها الإنسان العراقي. فهو بمجرد ولادته، يعيش مرغماً تحت سطوة قوانين مختلفة تتناقض مع رغباته وطموحاته، مثل قانون الأسرة والعشيرة والمدرسة والشارع والمجتمع والدولة.
مسؤولية تكاملية
مسؤولية الحد أو التخفيف من حالات الانتحار لا تتعلق بجهة من دون أخرى، فالمسؤولية تكاملية تبدأ من الأسرة التي يجب أن تكون أكثر تنظيماً، فتُقنن الإنجاب وتهتم بأفرادها وترصد علامات التغيير التي تُعتبر مؤشرات تعبّر عن رغبة الفرد في الانتحار، مثل الكآبة والانطواء والانعزال في الغرفة طوال اليوم. وهنا يبرز دور الأسرة في الوقاية والمعالجة من خلال مراجعة طبيب نفسي ومراعاة الفرد.
وتبقى هناك مسؤوليات أخرى تتعلق بالدولة من خلال توفير برامج تأهيل وترفيه تساعد الفرد في إفراغ طاقاته ومكبوتاته التي عاشها خلال حياته، ومساعدة الشباب في توفير فرص عمل وقروض ميسرة لهم.