لعل ما يدعو إلى الدهشة أكثر من أي شيء آخر في المسيرة الفنية للمخرج الأميركي أورسون ويلز هو ارتباط اسمه باسم كاتب الإنجليز المسرحي الأكبر ويليام شكسبير بشكل قاطع، إذ يعتبر كثر من الباحثين والنقاد أن ويلز شكسبيري إلى حد التخمة، مع أنه لم يحقق سوى فيلمين مقتبسين مباشرة من مسرحيات سيّد المسرح العالمي، إضافة إلى فيلم جمع فيه شتات شخصية شكسبيرية من مسرحيات عدة وآخر تحدث فيه عن تصويره لواحد من الفيلمين، وهو المعروف باسم "تصوير عطيل". وهناك في الواقع أمر يتعلق بانتساب ويلز إلى شكسبير يتعدى كمّ الأفلام التي "تشاركا" فيها، وربما يمكن اختصاره بما قاله ويلز مرة وكرره بعد ذلك مرات، وهو أنه يعتبر شكسبير أعظم كاتب للسيناريو السينمائي في تاريخ الفن السابع. وويلز قال هذا من دون أن يرفّ له جفن، متجاهلاً القرون الطويلة التي مرت بين رحيل شكسبير وولادة فن السينما. مهما يكن، هو فسّر الأمر يومها قائلاً ما معناه في المفهوم الويلزي للسينما والكتابة لها إن Top of FormBottom of Form المرء بالنسبة إلى صاحب "هاملت" و"عطيل"، "ليس في حاجة إلى أي نقل تقني للنص، حتى يصبح هذا صالحاً لأن يُصوّر سينمائياً... كل ما يحتاج إليه المرء هو أن يضع الكاميرا أمام الممثلين ويصوّر".
مئات الأفلام وربما أكثر
طبعاً، يبدو هذا الكلام من قبيل المغالاة، لا سيما في كلام مخرج اقتبس واحداً من أقوى وأجمل أفلامه، من أربع مسرحيات جمعها معاً لشكسبير، وهو فيلم "فالستاف"، لكننا في الحقيقة إن دققنا في هذا الكلام، سنجد أن ويلز لم يبتعد عن الحقيقة كثيراً. ولعل الدليل الأوفى على هذا، هو الميل الدائم لدى السينمائيين إلى اقتباس أعمال شاعر الإنجليز وكاتبهم الأعظم. فشكسبير لم يكتفِ بأن تُنقل كل أعماله إلى الشاشة، بل تجاوز هذا كثيراً، إذ إن أعماله الرئيسة، ومعظم أعماله الثانوية أيضاً، نُقلت عشرات المرات لكل منها. وعشرات المرات هذه لا تشمل سوى الجزء البارز من "جبل الجليد"، إذ ثمة مقابل كل فيلم يحقق أو نص يقتبس، أعمال كثيرة لا تعلن عن نفسها أو عن انتسابها إلى أعمال شكسبير، بحيث يبدو من المستحيل وضع لائحة نهائية بما تدين به السينما - كل السينما - لشكسبير، في كل مكان وزمان.
منذ بدايات الصورة المتحركة
وإذا كانت المراجع الأكثر موثوقية تتحدث عن نحو 500 اقتباس رسمي ومعلن لأعمال شكسبيرية على الشاشة الكبيرة، فإن في إمكاننا أن نفترض أن العدد الحقيقي من المحتمل أن يصل إلى ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف عمل، معلن أو غير معلن، إذ يندر أن يوجد بلد لم ينتج السينمائيون من أبنائه أفلاماً تمتّ بصلة ما إلى شكسبير. ولئن كان- بالتالي- من المستحيل، وضع لائحة عالمية نهائية بالسينما الشكسبيرية، يمكن الاتكال على اللوائح الأكثر رسمية، أي التي تتحدث عن اقتباسات شكسبيرية صريحة ومعلنة في السينما، وبدءًا من الأعوام الأولى لولادة السينما، إذ تفيدنا المصادر المتنوعة بأن أول دنوّ سينمائي من شكسبير كان عام 1898، حين صوّرت الكاميرات البدائية، التي كان نتاجها لا يزال- طبعاً- صامتاً، أربعة مشاهد من مسرحية "الملك جان" كنوع من الدعاية للمسرحية التي كانت تُقدّم على "مسرح صاحبة الجلالة" بدءًا من سبتمبر (أيلول) من ذلك العام. وبعد ذلك كرّت السبحة، من دون توقف بدءًا مع سارة برنارد التي تنكرت في زي "هاملت" في شريط حقق عام 1900، ثم غريفيث الذي حقق "ترويض النمرة" صامتاً عام 1908، بعد سلسلة أعمال إيطالية وإنجليزية في هذا المجال، وصولاً إلى أيامنا هذه، إذ بالكاد يمضي موسم من دون أعمال شكسبيرية، صريحة أو خفية.
كبار في الميدان
أما أفضل الاقتباسات الشكسبيرية حتى اليوم، فوُضعت فيها لوائح عدة يكاد يستشف منها نوع من الإجماع على أنها تلك التي حملت تواقيع أساطين الفن السينمائي من بيتر بروك ("مأساة هاملت"2001، و"الملك لير" 1969) إلى أورسون ويلز (الذي على الرغم من كل الضجيج الشكسبيري الذي يحيط به، لم يحقق سوى اقتباسين من شكسبير، إضافة إلى توليفة "فالستاف"، (وهما الفيلم المغربي "عطيل" والرائعة "الإسبانية" "ماكبث")، مروراً بلورانس أوليفييه (3 أفلام) وأكيرا كوروساوا ("ران" 1985، و"قصر العنكبوت" 1965، عن "لير" و"ماكبث" على التوالي)، بخاصة أحدثهم الإنجليزي الشكسبيري العريق كينيث برانا (ما لا يقل عن أربعة أعمال شكسبيرية مميزة) وبيتر غريناواي ("كتاب بروسبيرو" عن "العاصفة" 1991) ورومان بولانسكي وجوزيف مانكفتش، والإيطالي فرانكو زيفيريللي (الذي تبقى دائماً اقتباساته الشكسبيرية الأكثر شعبية، لا سيما منها "روميو وجولييت" و"ترويض النمرة")... وصولاً اليوم إلى جويل كون، أحد الأخوين الأميركيين كون الذي حقق اقتباساً جديداً من "ماكبث" كنزوة فنان لا أكثر!
ترتيب الأفضلية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد هذا، يبقى سؤال: أي من مسرحيات شكسبير حظيت دائماً بالاهتمام الأكبر من السينمائيين من ناحية الإقبال على أفلمتها؟ الجواب بديهي: "روميو وجوليت" التي اقتُبست، على الأقل ومنذ جورج ميلياس (1902) إلى الأسترالي باز ليرمان (في "روميو وجوليت" 1996)، ما لا يقل عن 150 مرة، عدا مئات المرات غير المعلنة. تليها "هاملت" في نحو 120 اقتباساً مباشراً ومعلناً، في أكثر من ثلاثين بلداً. وتأتي بعد هذا "أوتيلو" (المعروفة عربياً بـ"عطيل") في أكثر من 40 اقتباساً، ثم "ماكبث" في 40 اقتباساً أيضاً، فـ"أنطوان وكليوباترا" و"الملك لير" و"يوليوس قيصر" و"تاجر البندقية" في ما يتراوح بين 10 و15 اقتباساً لكل منها، بعد "ترويض النمرة" التي اقتبست، وغالباً معصرنة، أكثر من 20 مرة.
أما مسرحيات شكسبير حول فصول التاريخ البريطاني، فإنها، إذا كانت اقتُبست مرات عدة لكل منها في إنجلترا، لا يمكن توقّع أن تكون حازت على عولمة حقيقية وهذا بديهي... على عكس حال الكوميديات التي، إذ اقتبست إنجليزياً وعالمياً، كان من حظها في معظم الأحيان أن تؤخذ بعيداً من سياقها التاريخي الإنجليزي لتحمّل أفكاراً وأزياء غريبة عليها.
شكسبيريات على الهامش
ولعل من المفيد أن نتوقف هنا في خاتمة هذا الكلام عند واقع أن ما ذكرناه أعلاه، سواء كان معترفاً به أو مقرصناً بشكل أو بآخر، يبقى محصوراً في البلدان التي اتخذ فيها الإنتاج السينمائي طابعاً إنتاجياً رسمياً وتراكمياً. أما ما لا يمكننا التوقف عنده، فهو الاستخدام الشكسبيري لصنع أفلام في عدد لا يُحصى من بلدان وسينمات هامشية. ففي الهند ومصر كما في المكسيك وعدد من بلدان أخرى ذات إنتاجات لا تتوقف، لم يتوقف "الاقتباس" من شكسبير منذ فجر السينما في تلك البلدان، ويمكننا أن نشير طبعاً إلى الحالة المصرية، إذ نَدُر أن كان هناك مخرج ومن الدرجة الأولى غالباً، لم يجد نفسه ذات لحظة من مساره، يلجأ إلى شكسبير. فمنذ "شهداء الغرام" إلى "المتوحشة"، ومن "الملاعين" إلى عدد لا بأس به من أفلام أعطى بعضها دور "الملك لير"، معصرناً ومعرّباً، إلى فريد شوقي على سبيل المثال، كان شكسبيبر حاضراً بقوة في السينما المصرية، وغالباً من دون أن يُذكر. أما الاستثناء الأبرز، فيبقى حلم لم يتمكّن يوسف شاهين من تحقيقه: حلم أن ينقل إلى شاشته البديعة مسرحية "هاملت" ولو تحت شعار "هاملت الاسكندراني"!
هل اختُرعت السينما من أجله؟
وإذا كان ثمة أمر يمكن أن نقوله في النهاية، فهو أن شكسبير، الراحل قروناً قبل اختراع الفن السابع، يبدو من خلال هذا السرد كله، وكأن فن السينما اختُرع من أجله... وليس بفضل ما وصفه أورسون ويلز به فحسب، ولا بفضل مئات الاقتباسات من أعماله، بل لأننا إذا بحثنا عن اسمه أو الصفة المرتبطة بهذا الاسم: شكسبير والشكسبيرية، لن نعدم أن نراهما ينطبقان، جوهرياً على القسم الأعظم من الأفلام الجادة في تاريخ الفن السابع، سواء حملت بكل وضوح وصراحة، أفكار شكسبير ومواضيع أو لم تحملها.