في مقالي هذا الاسبوع والذي يليه، سأناقش فكرة الانحياز المعرفي المُسبَق الذي تعرّفه موسوعة "ويكيبيديا" الشبكيّة بأنه خطأ في التفكير يحصل عندما يتعامل الناس مع معلومات تأتيهم من العالم الذي يعيشون فيه، ويعالجوها ويحلّلوها ويفسّرون معانيها. ويقصد بمعالجة المعلومات عمليات التقاطها وفهمها وإدراجها ضمن منظومة معرفيّة قد تكون فرديّة أو جماعيّة. ويتميّز عقل الإنسان بأنه قوي لكن هناك حدود لقوّته. وغالباً تتأتى الانحيازات المعرفيّة من محاولة الدماغ تبسيط عمليّة معالجة المعلومات.
ثمة 100 نوع من الانحياز المعرفي، لكني سأكتفي اليوم بالحديث عن بعضها، بداية من ما يسمّى "الانحياز إلى الحاضر"، بمعنى تفضيل الزمن الحاضر أثناء عمليّة معالجة المعلومات. واشتغلت دراسات علميّة عدّة على شرح ذلك الانحياز، مستخدمة تجارب تتصف بدقة التصميم وحسن الاستنتاج. يظهر مثلٌ عن "الانحياز إلى الحاضر" عندما يُسأل الناس إذا كانوا يفضلون الحصول على ألف ريال اليوم أو 1200 ريال بعد شهر، فيختار الناس الحصول على ألف ريال. لنلاحِظ أن التخلّي عن عائد مقداره عشرين في المئة من استثمار معين، يعتبر تصرّفاً خاطئاً، وهو أمر تسهُل ملاحظته عندما يُخرَج الحاضر من السؤال. وإذا سئل الناس إذا كانوا يفضّلون الحصول على ألف ريال بعد سنة أو 1200 ريال بعد 13 شهراً، يميل معظمهم إلى الانتظار شهراً اخر للحصول على 200 ريال إضافية.
بالطبع، لا يظهر "الانحياز إلى الحاضر" في التجارب وحدها، لكن في العالم الفعلي أيضاً. إذ لا يجيد الناس الادّخار من أجل سنواتهم المقبلة التي سيغدون فيها غير قادرين على العمل. حتى عندما يحصلون على دخل يزيد عن كفاية نفقاتهم، وحتى عندما يعملون لدى شركات مستعدّة لزيادة تمويل مخطّطات التقاعد إذا ساهم الموظّفون في ذلك، يجد الناس صعوبة في رؤية أنفسهم في مستقبلٍ آتٍ.
وبحسب تعبيرات أكاديميّة، يعيش الناس "اغتراباً" عن ذواتهم المستقبليّة". إذ ينظرون إلى الادّخار بوصفه خياراً بين إنفاق المال حاضراً أو إعطائه إلى غريب مستقبلاً! وبهدف تعديل تلك الحالة المعرفيّة، يمكن للمرء أن يراقب، لدقيقة أو أكثر، صوراً عمّا سيصبح عليه عندما يبلغ سن السبعين مثلاً. ومن شأن إجراء تلك العمليّة البسيطة مباشرة قبل قبض الراتب الشهري، تحفيز المرء على إدّخار ضعفي ما يفعل عادة، كي يخدم تقاعده مستقبلاً.
ثمة انحياز معرفي اخر يسمّى "الانحياز إلى التفاؤل"، يؤدي إلى الاستخفاف الممنهج بالتكاليف والوقت اللازمين لإنجاز المشاريع التي ننخرط فيها. وهناك انحياز معرفي ثالث يسمّى "تأثير الربط"، بمعنى ميلنا إلى الاستناد بشدّة على أول جزء نحصل عليه من المعلومات، في صنع قراراتنا وتقييماتنا وتوقّعاتنا. وبسبب "تأثير الربط"، يبدأ المُفاوِضون مداولاتهم بطرح رقم يكون إما شديد الارتفاع أو فائق الانخفاض، لأنهم يعلمون أن المفاوضات التالية سوف "تُربَط" بذلك الرقم.
هناك انحياز من نوع خاص، ويتسّم بأنه مؤذٍ لكنه منتشر تماماً، ويسمّى "الانحياز إلى الموافقة". يحدث ذلك عندما نبحث عن أدلة تتوافق مع ما فكّرنا به أو ذهبت ظنوننا إليه، وكذلك النظر إلى الوقائع والأفكار التي تصادفنا بوصفها دليلاً آخر على أفكارنا، وتجاهل أو الانصراف عن المعطيات والأدلة التي تبدو أنها تؤيّد وجهة نظر اخرى. في كل مرّة نُجري عمليّة بحث على "غوغل"، يعطينا محرك البحث ما نريد رؤيته، ونختار أيضاً ما نسعى إلى تصديقه.
شكّل التفكير بشأن الانحيازات المعرفيّة والاستدلالات الخاطئة (وهي الاختزالات الفكريّة والقوانين المرجعيّة التي نستند إليها في صنع أحكامنا وتوقّعاتنا)، خطوة ثوريّة عندما طُبّق على الاقتصاد، وأدى ذلك إلى فوز الأستاذين الأكاديميّين دانيال كاهنمان وفرنون سميث، بجائزة نوبل للاقتصاد في العام 2002. لمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع، أنصح بقراءة كتاب "التفكير سريعاً وبطيئاً" الذي ألّفه كاهنمان.
يحصل "الانحياز إلى الحاضر" عندما نحاول تقييم سلوك شخص ما، ونعطي وزناً كبيراً لصفاته/صفاتها الشخصية، فيما نقلّل من تأثير العوامل الخارجيّة التي يمكن قياس عدد كبير منها بواسطة الإحصاءات.
ولأن الانحيازات المعرفيّة مثبَّتَة في العقول وغير قابلة للتغيير، أُعطيَ اهتمام كبير إلى سُبُل التصدي لها، لكن ذلك الاهتمام لم يتعامل مباشرة مع ما ينجم عن تلك الانحيازات من أخطاء في الأفكار والأحكام والتوقّعات. وبدلاً من ذلك، انصبّ الاهتمام على سُبُل تغيير ذلك السلوك من الانحياز، خصوصاً الحوافز و"لفت الانتباه". ومثلاً، ثبت أن"الانحياز إلى الحاضر" تصعب زحزحته، إلا أن الموَظِّفين نجحوا في دفع الموَظَّفين إلى المساهمة في أموال التقاعد، عبر جعل المساهمة الإدخاريّة فيها خياراً أساسيّاً غير مطروح للسؤال، بل يتوجّب على الموظَّف بذل مجهود خاص للخروج من ذلك الخيار، وعدم المساهمة في أموال التقاعد. بقول اخر، قد يكون الكسل أو الميل الى الاستمراريّة، أقوى من الانحياز. من المستطاع أيضاً تنظيم الإجراءات بطريقة تثبّط الانحياز المعرفي أو تمنع الناس من التصرّف استناداً إليه. ثمة مثل معروف يتمثّل في قوائم التثبّت من الأعمال المستخدمة من قِبَل الأطباء وطواقم التمريض. أنا اعتمد تلك القوائم في كل عمليّة أنهض بأمرها، سواء في مختبري أو في بيتي ومع إبني.
كخلاصة، من الممكن القول أن المرء يستطيع التخلّص من الانحياز المعرفي أو تخفيفه.