حين تنشغل "الحاجة سعدية" عن حركة بيع الجرجير وتفريغ الفجل الدائرة رحاها في سوق الزيتون الشعبي شرق القاهرة، لأنها تحول 50 جنيهاً (3.19 دولار أميركي) عبر خدمة "كاش" على هاتفها المحمول لحفيدها في بني سويف شمال الصعيد، وحين يسأل "عم عبده" العامل المتقاعد منذ سنوات يعجز عن تذكر عددها عن أيقونة "خدمات التموين" على بوابة "مصر الرقمية" ليستعلم عن بطاقة التموينية، وحين يصطف عمال البناء النازحين من قرى صعيد مصر إلى مواقع البناء في العاصمة الإدارية الجديدة ليتقاضوا رواتب الأسبوع بمساعدة أكثرهم علماً الحاصل على شهادة محو الأمية، فإن هذا يعني أن القاعدة الشعبية العريضة تترقمن على الرغم من رفعها شعار "لا للرقمنة".
حوسبة كمية غير شعبية
تحدث من الآن وحتى آخر العام عن الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وشبكة الجيل الخامس المتنقلة والطباعة ثلاثية الأبعاد والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء، وستخسر مستمعيك في أقل من 10 ثوان، واعرض عرضاً شيقاً مصحوباً بالأرقام الدالة ومزوداً بالنسب القاطعة عن العائدات الاقتصادية المحققة من الرقمنة، وأهداف التنمية المستدامة المحققة بفضلها، والنقلة النوعية في سوق العمل ومتطلبات التعلم وأقصى ما ستحصل عليه من جمهورك هو إيماءات الرأس التي تعني إما الموافقة على ما يقال أو مجاملة المتحدث لينهي حديثه غير الشيق.
التشويق والإثارة في الفرع الإلكتروني لأحد البنوك الحكومية المصرية في "مدينتي" (تجمع سكني كبير شرق القاهرة) غير مسبوقين. الفرع "المميكن" كما تسميه جيوش العمال و"الصنايعية" هناك تحول من خدمة إلكترونية مصرفية ذاتية عبر شاشات تفاعلية إلى مزار مثير وعامل جذب رهيب لخوض تجربة الخدمات المصرفية المميكنة، وعلى الرغم من التباين التعليمي بين جيوش العمال المنبهرين بالفرع، وتباهي الحاصلين على الشهادة الإعدادية بقدرتهم على تحديث بياناتهم والاشتراك في خدمة الإنترنت المصرفي، إلا أن الفرع يشهد يومياً ترجمات عدة لمبدأ "الحاجة أم الاختراع".
اخترع كثيرون ممن يعانون الأمية الأبجدية طرقاً مبتكرة للتمتع بخدمات الفروع الإلكترونية وسحب الأموال من ماكينات الصراف الآلي عبر حفظ أماكن أرقامهم السرية على اللوحة، أو الاحتفاظ بورقة عليها كل رقم مصحوب برسم طائر أو حيوان مثلما فعلت لغات هيروغليفية وصينية قديمة، ويحملون وريقات تحوي ألغازاً لا يفيك طلاسهما سواهم على سبيل التأمين، لكنها تمكن كلاً منهم من التغلب على عائق الأمية المقيت في التعاملات الرقمية.
محافظ افتراضية
محافظ من نوع آخر تفرض نفسها على الواقع الرقمي الشعبي الجديد في مصر. وعلى الرغم من أن البداية اختيارية متوددة، إلا أن العالمين ببواطن الأمور يعرفون جيداً أنها ستتحول إجبارية لا خيارات فيها أو بدائل لها طال الوقت أو قصر، وأقصر الطرق لتسلل الشك لقلب المواطن في مصر هو الإعلان الرسمي المذيل بعبارة "الإتاحة لمن يرغب"، فواقع الحال يشير إلى أن الإتاحة ستتحول في الغد القريب إلى قرار لا رجعة فيه، وحين أعلن رئيس الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي جمال عوض أعلن قبل أيام أنه ستتم إتاحة صرف المعاش من خلال محافظ الهواتف الممولة لمن يرغب، أصاب الهلع كثيرين من أصحاب المعاشات.
أصحاب المعاشات الذين ظلوا حتى الأمس القريب يقاومون بكل ما أوتوا من قوة صرف معاشاتهم عبر ماكينات الصراف الآلي مفضلين التوجه إلى مقار مصارفهم شخصياً، وانتظار دورهم بالساعات في قاعات الانتظار، وصرف المعاش من خلال موظف يتبادل معه أطراف الحديث، ويسألونه عن أسباب عدم زيادة المعاش، ورأيه في أن يتقاضى معلم علم أجيالاً أو موظف خدم ملايين أو مهندس بنى طرقاً وجسوراً ملاليم والموظف لا حول له أو قوة، ولا معلومة لديه أو تعليل، يجدون أنفسهم هذه الأيام مهددين ليس فقط بالإجبار على التعامل مع ماكينة بكماء، بل عبر محفظة لا وجود لها إلا افتراضياً على هواتفهم المحمولة.
هلع المتقاعدين
شروح رئيس الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي لإجراءات وكيفية تفعيل خدمة تلقي المعاش على محفظة الهاتف المحمول سهلة وبسيطة للحفيد طالب الإعدادي، لكنها مدعاة للقلق والهلع لمن أمضى عمره يقدم الطلب على ورقة عبارة عن أصل وصورتين مستنسختين بورقة كربون، ويحتفظ بأرقام هواتف الأهل والجيران والطوارئ على "أجندة تليفون" ورقية اصفرت أوراقها وانمحت معالمها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على صاحب المعاش التوجه لشركة المحمول المسجل بها رقمه، ثم ملء استمارة بالبيانات إلكترونياً، وتحويلها إلكترونياً أيضاً لهيئة التأمينات التي تفعل الطلب بدءاً من أغسطس (آب) المقبل، أي بعد أيام قليلة، ولا تأتي المحفظة الإلكترونية من دون عوامل جذب لأصحاب المعاشات، فصاحب المعاش الذي يختار هذه الخدمة سيحظى بدقائق مجانية على هاتفه المحمول.
ولولا هذه الدقائق، لاتهم "أستاذ مدحت" (موجه أول اللغة العربية المتقاعد) الدولة بمعاداة المعلمين ووضعهم في مآزق رقمية وإجبارهم على تحولات مرقمنة لا قبل لهم بها. الدقائق المجانية ستتيح له الاتصال بـ "عبده البواب" (حارس العقار) ليطلب منه سداد فواتير الكهرباء والهاتف الأرضي "التي يصر على سدادها عبر فوري وليس من خلال التوجه إلى شركة الكهرباء والسنترال".
وداعاً للسداد في الشركات
ملايين المصريين ودعوا رحلات الذهاب والإياب المتكررة شهرياً أو ربع سنوية أو السنوية لسداد فواتير الكهرباء والهواتف الأراضية والمياه وغيرها، مفضلين سهولة السداد في كشك "عم حسين" المتاخم لباب البيت وأحياناً باب البيت نفسه حيث ماكينات خدمات السداد الآني المتاحة في كل ركن وشارع وحارة ومركز تجاري.
المراكز التجارية نفسها تستشعر تحولاً رقمياً تصاعدت ملامحه وتسارعت معالمه على مدى عام ونصف العام من عمر كورونا. في محل الملابس المشهور في المركز التجاري الذي كان يعج بالمتسوقين والمتسكعين خلال أشهر الصيف مكفياً بالفئة الأخيرة هذه الأيام، طابور مخصص لمرتجعات التسوق "أون لاين". المحل المنتشرة فروعه في أرجاء العالم يتجه بثقة وسرعة ونجاح نحو الـ"أونلاين". عروض للترويج وخصومات للتسويق والشحن والتسليم مجانيان للطلب الذي يزيد على 350 جنيهاً (22.30 دولار)، والنتيجة أن المحل يخلو شيئاً فشيئاً من البضائع والزبائن، والـ "أونلاين" يمتلئ سريعاً بالباحثين عن عروض لا تتوافر في المحل وتوصيل الـ "تي شيرت" الأنيقة والبنطلونات المريحة إلى باب البيت، وربما قريباً إلى درج الخزانة.
نهلة وبسمة وفُتنة ظللن رافضات للتسوق "أونلاين" مقاومات للعروض العنكبوتية ومرجحات كفة التسوق في المحال وقياس الملابس والمقارنة بين هذه وتلك حتى اكتشفن أن التسوق الرقمي يوفر المال والجهد ويمنح تسهيلات في الدفع والاستبدال والإرجاع، وحالياً تتسوق الصديقات الثلاث معاً كل في بيتها عبر زووم وقهوة مصنوعة في المطبخ وبطاقة ائتمانية تمنح هي الأخرى خصوماً إضافية ومميزات تحفيزية تدفع دفعاً نحو الشمول المالي.
المفهوم المبهم
بقاء مسمى "الشمول المالي" مبهماً لدى كثيرين لا يعني أن هؤلاء الكثيرين غير مشمولين مالياً. "شادية" عاملة النظافة في النادي الرياضي و"حسن" نادل المطعم و"شيرين" عاملة التعقيم في الشركة الصغيرة يؤكد أنهم غير مشمولين مالياً، على اعتبار أن الشمول المالي هو أن يشمل المال صاحبه بنعمة الكفاية والشمول، لكنهم وملايين غيرهم مشمولين فعلياً، حيث لكل منهم حساب مصرفي يتم تحويل راتبه الصغير إليه، ويتم خصم قسط الشقة وفائدة القرض وقيمة التأمين على الحياة منه.
المركز المصري للفكر والدراسات الستراتيجية كشف في دراسة عن "التحول الرقمي في البنوك المصرية" صدرت حديثاً أن الأعمال والخدمات المصرفية في مصر وغيرها من الدول الأفريقية أقل نضجاً من مثيلاتها في دول أوروبية وآسيوية، وهو ما يزيد صعوبة التأقلم مع التغيرات في السوق المالية ويحد من إمكان استمتاع المواطن المصري بالخدمات المصرفية الحديثة. وجاء في الدراسة أن واحداً بين كل ثلاثة مصريين فقط لديه حساب مصرفي.
حسابات مصرفية جاذبة
ولذلك فإن البنك المركزي المصري يتخذ حالياً إجراءات متسارعة لتحفيز المصريين على فتح حسابات مصرفية مع تيسير الإجراءات بشكل غير مسبوق، وإذا كان الغرض الرسمي من ذلك هو تحقيق مبدأ الشمول المالي، لا سيما بهدف إدماج القطاع غير الرسمي في المنظومة الرسمية للاقتصاد، فإن العاملين في الاقتصاد غير الرسمي تتجاذبهم غبطة الحصول على بطاقات مصرفية وما يعنيه ذلك من تيسيرات وخدمات بالإضافة إلى "الوجاهة الاجتماعية"، وقلق لفت انتباه أعين الدولة إليهم، وهم العاملون الرابحون الخاسرون من دون أن يدري بهم أحد على مدار عقود. يشار إلى أن المنشآت الاقتصادية غير الرسمية في مصر تمثل نحو 53 في المئة من إجمالي المنشآت الاقتصادية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
القرارات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي أشارت إلى تسهيل تدشين حسابات مصرفية لأصحاب الحرف والمهن الحرة والمنشآت متناهية الصغر، وذلك بالاكتفاء ببطاقة تحقيق الشخصية الخاصة بالمنشأة أو بطاقات شركات النشاط الاقتصادي في حال كان النشاط له مقر، وجاء في القرارات أن تتناسب الخدمات المتاحة لهذه الفئة وحدود أهليتها وحجم المخاطر المرتبطة بها، كما يتاح فتح حسابات للمواطنين من أصحاب الحرف والنشطة متناهية الصغر من مقره ببطاقة شخصية وبطاقة مزاولة مهنة.
جذب غير رسمي
تهدف الدولة إلى إضافة نحو 44 مليون مصري إلى القطاع المالي الرسمي، بعضهم يرغب في ذلك والآخر يمسك بتلابيب الورقة والكراس، وأحياناً الرأس بديلا عن الكراس. السيارة "ثُمن" النقل سابقاً المتحولة "سيجارلو" ثابتاً حالياً على رصيف في مدينة الشروق السكنية يديرها رأس من كراس. "أحمد" صاحب السيارت التي تحولت محل بيع السجائر بالعلبة أو بالواحدة للعمال الذين يزدحم بهم المكان كان عامل بناء حتى عام مضى. ولأن غالبية عمال البناء تدخن حيث لا متعة لهم في سويعات الراحة سوى التدخين، فقد قرر أن يكون مدير نفسه ومالكاً لـ "بيزنيس" خاص به، بدأ بعشر علب سجائر يبيع محتوياتها بالواحدة مساءً ثم عندما انفتحت أبواب الرزق تمكن من شراء سيارة "مكهنة" من موتور وحولها "سيجارلو"، ولأنه لا يقرأ أو يكتب فهو يعتمد على ذاكرته إضافة للحساب على هاتفه المحمول لأنه تعلم الأرقام.
أحمد يعتبر الحساب المصرفي نذيراً بضلوع الضرائب والتأمينات وغيرها من "جهات الجباية" كما يسميها في رزقه القليل، لكنه في الوقت نفسه لا يمانع في أن يكون صاحب حساب مصرفي ويحمل بطاقة ائتمانية لأن ابن عمه الذي اشترى سيارة أجرة عبر قرض وحساب بنكي وابن خاله الذي يسدد أقساط شقة "الإسكان الاجتماعي" عبر حساب بنكي ليسا أفضل منه.
تحول رقمي مدهش
أفضل ما شهدته مصر خلال السنوات الماضية على صعيد التحول الرقمي هو شهادات الميلاد والوفاة والقيد العائلي المميكنة، فكل المطلوب بطاقة الرقم القومي، وفي خلال دقائق يتمكن للمواطن من إصدار الشهادة المرادة، وفي حال اكتظ مكتب سجل مدني هنا بالمواطنين فإن لامركزية الرقمنة باتت تتيح للمواطنين إصدار الشهادات من أي مكتب سجل مدني. وعلى الرغم من ذلك ومع النقلة النوعية واعتراف أكثر المواطنين ميلاً للنقد وإغراقاً في الشكوى بالتحول الإيجابي الكبير على صعيد إصداء شهادات الميلاد والوفاة آنياً بفضل الرقمنة، إلا أنهم لا يعتبرون ذلك رقمنة بقدر ما يعتبرونه إحلالاً وتبديلاً.
الإحلال والتبديل
الإحلال والتبديل الرقمي يرتبطان بنظيريهما الاجتماعي، فعلى الرغم من أمارات التحول الرقمي في مصر في الطبقة العريضة من قاعدة الهرم الاجتماعي، إلا أن هذه الأمارات في الأخيرة لم تظهر بالوضوح نفسه بعد، بما في ذلك إدراك المصريين أنفسهم أنهم في حال تحول رقمي ومن ثم تحول اجتماعي.
أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة غادة موسى تقول في مقالة لها عن التحول الرقمي في مصر، إن التطورات التقنية تعتبر من الصدمات الخارجية التي تساعد في إحداث قدر من التحول الاجتماعي، مشيرة إلى أن الابتكارات تسهم في تجسير الفجوات المعرفية بين الطبقات وبين الريف والحضر، إضافة إلى الحد من التهميش، وتشير إلى أن التحول الرقمي يؤدي إلى أشكال من التحول الاجتماعي، وأنه لا بد من إيجاد أدوات لقياس هذا التحول ومدى قبول المجتمع أو رفضه للرقمنة.
وتنبه موسى إلى ضرورة توجه صانعي سياسات التحول الرقمي إلى سن الاستراتيجيات والخطط المناسبة بحسب كل قدرات وحاجات كل فئة، لا سيما أن افتقار المهارات يقف حائلاً أمام التحول الرقمي. وتضيف، "لا نتحول رقمياً بهدف تحقيق التحول الرقمي، بل لإحداث التحول الاجتماعي، أو بمعنى آخر لتسهيل تنفيذ التحولات الاجتماعية وتوجيهها في الاتجاه السليم من خلال التحول الرقمي"، مشيرة إلى "أن الفجوات الكبيرة في المهارات والقدرات الرقمية تعكس تفاوتات اجتماعية كبرى".
وعلى الرغم من التحديات الكثيرة أمام التحول الرقمي بدءاً بالكلفة المادية مروراً بالبنى التحتية وانتهاء بالمقاونة الشعبية للفكرة والمسمى، إلا أن المصريين يثبتون العكس، فهم ماضون قدماً في تحولهم الرقمي رغم أنف تعثرات التحول الاجتماعي ومن أن يلتفتوا لمقاومتهم اللفظية للفكرة وارتباطها بمخاوف "الجباية" ورهبة التغيير، فحتى التوجس الشعبي من إحالة الورقة والقلم للتقاعد وانتهاء عصر الشد والجذب مع مندوبي البيروقراطية وممثلي التعقيدات الحكومية والعقبات المصرفية عبر الرقمنة تعتبره الغالبية تحديثاً وتطويراً ليس إلا، وإذا كان الاعتراف سيد الأدلة فإنه ليس كذلك في تحول المصريين الرقمي، بل مشاهد السوق والشارع والباص الغارقة في الرقمنة سيدة الأدلة.