في الكتاب الضخم (1100 صفحة) الذي أعدّه الباحثُ الهولنديّ جوناثان إيرفن إزرايل، أستاذ كرسي إسبينوزا للفلسفة في جامعة أمستردام، عن التنوير الغربي، والصادر في ترجمة عربية أنجزها محمد زاهي المغيربي ونجيب الحصادي عن "هيئة البحرين للثقافة والآثار" (2020)، سعيٌ حثيثٌ للإجابة عن سؤال جوهريّ: هل كانت أفكار التنوير وليدة الثورة الفرنسية أم ماذا؟ ويلحق به سؤال فرعيّ: ما مكانة الفلسفة في تكوين التنوير بخاصة، وتكوين الحداثة بصورة عامة؟
يفتتحُ المؤلّف الباحث إزرايل دراسته المرجعية بمناقشة مسلّمة لطالما كان بعضُ المفكّرين والفلاسفة المعاصرين يطرحونها، وهي أنّ شعارات الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، إخاء) إنما كانت نتاج أفكار التنوير الجديدة، في حين أنّ المجتمعات المبكرة الحديثة (في أوروبا الغربية) قبيل الثورة الفرنسية كانت أشدّ انغماساً في التقليد والمذهب اللاهوتي، على ما تبيّنه المدوّنة الهائلة التي عاد إليها الباحث (ما يقارب ثلاثة آلاف مرجع، باللغات الأوروبية كافة: الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية، الألمانية، الهولندية، واللاتينية). وإذ بيّن الباحث تهافت الزعم السابق، بحصول التنوير الغربي إبّان الثورة الفرنسية وبفضلها، ينطلق بعدها إلى التثبّت من مقولة للفيلسوفة الألمانية حنّة آرندت من أنّ كلمة "الثورة" بما تعنيه من قطيعة مع الماضي، لم تظهر إلا مع الثورة الفرنسية. ولا يلبث أن يدحض المقولة السابقة، بالعودة إلى المدوّنة نفسها لكتابات وجدالاتٍ مسجّلة في كل أنواع الكتب ذات الطابع الفكري والفلسفي واللاهوتي، وكلّ المراسلات على امتداد القرن السابع عشر وصولاً إلى منتصف الثامن عشر، فيخلص إلى أنّ مصطلح "الثورة" كان جرى تداوله منذ عام 1688، على يد تنويريين راديكاليين. ويروح يعرض أمثلة دالّة على هذا التداول السابق للثورة الفرنسية، من مثل وصف لانفيلييه (1730) الإسلام بأنّه "ثورة غير متوقّعة" على الفكر السائد في الشرق، واعتبار تورغو (1750) المسيحية بأنها "ثورة عامة قامت بها العقول".
بين الثورة الفرنسية والحداثة
إذاً، في مقابل الطرح الانقلابي والفجائي والأحاديّ الجانب لدى المفكّرين الأيديولوجيين، ممن يرون إلى الحداثة في أوروبا تحوّلا وثورة طارئيْن، في الزمن، يستعين الباحث بالمدوّنة عينها للاستدلال على الحال الفكرية التي أفضت إلى الثورة (الفرنسية) ووفّرت أرضية صالحة للحداثة، والتي مفادها أنّ ثمّة سياقاً فكرياً عامّاً، سابقاً للثورة بمئة عام أقلّه، هو الذي تغيّر، وأتاح لجماعة تنويرية راديكالية أن تتقدّم المشهد، وتحدث التغيير السياسي المتمثّل في الشروع بإقامة الجمهورية الديمقراطية التي كان سبق للتيار التنويري الراديكالي نفسه أن طرحها في كتاباته. وكان المؤلف إيزرايل قد أشار إلى أفكار الانعتاق والثورة على الظلم والاستبداد، والجمهورية الديمقراطية كانت قد شاعت في أوروبا بدءاً من هولندا، موئل الحرّية الفكرية، في القرن السابع عشر، وموطن المنشقين الفرنسيين عن الملَكية والكنيسة الكاثوليكية وحكمهما المطلقين، بسبب سيادة المذهب البروتستانتي، وشيوع مناخٍ من الحرّية الفكرية عزّ نظيره في أوروبا، من مستهلّ القرن السابع عشر.
وبعد أن يتقصّى الباحث إزرايل مدوّنته الفكرية والفلسفية، تقصّياً تعاقبياً (أي تاريخياً) منذ القرن السابع عشر وحتى منتصف الثامن عشر (قبيل الثورة الفرنسية)، تتبيّن له حقيقة غفلت عنها كل الكتابات ذات الطابع الأيديولوجي، وهي أنّ نزاعاً سجالياً كان قد حصل بين ثلاثة من تيارات التنوير الغربي، على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر: وهي التنوير الراديكالي، والتنوير المعتدل، والحركة المضادة للتنوير.
اتّضح للمؤلف، وعبر العدد الهائل من الكتيّبات الصادرة بين عامي 1670 و1720، انقسام الرأي العام الأوروبي حيال ثورة الأميركيين على المستعمرين البريطانيين انقساماً دالاً على اتّجاهاتهم الفكرية التنويرية الآخذة في التبلور، في حينه؛ فمنهم من اعترض على الحقّ الإلهي الممنوح للبريطانيين في حكم بلادٍ ليست لهم، ولا يملكون الحقّ الشرعيّ فيها، بالتالي يعتبر البريطانيون مستعمرين، وأنّ الثورة بمعناها الجديد، باتت أمراً مشروعاً. وبالمقابل، ساندت فئات فكرية فرنسية وأوروبية السلطات الملكية البريطانية في تصدّيها للثوار الأميركيين المحليين، باعتبارها دفاعاً مشروعاً عن حكمٍ شرعي إلهي.
ومما يكشف عنه البحث، في تقصّيه المدوّنة الهائلة نفسها، أنّ الصراع بين هذه التيارات التنويرية الثلاثة كانت تعززه مساهمات الفلاسفة الحاسمة فيها. ولئن كان تيار التنوير المحافظ مرجّحاً، في بدء الصراع، ممثّلا بهيوم، وكوندورسيه، وبوسّويه، وغيرهم فإنّ التيار الراديكالي، ممثلاً بفونتنيل، وبولانفيلييه، ودومارسي، وموريللي، وديدرو وغيرهم الكثيرين، عاد أقوى وأصلب وأكثر رسوخاً من السّابق، وأكثر انتشاراً في عموم أوروبا. والفضل في ذلك، على ما يقول المؤلف، يعود إلى مناخ الحرية الفكرية الذي وفّرته هولندا التي حسبها إيزرايل موئل التنوير الراديكالي الأول لأسباب وجيهة، أوّلها؛ غلبة الجماعات البروتستانتية على سائر الجماعات في البلاد، مع ما يعنيه ذلك من إتاحة الحرّية الانتقادية للكنيسة (الكاثوليكية) وتزمّتها اللاهوتي والسياسي، وثانيها انتقال جماعة من المفكّرين التنويريين الفرنسيين المعارضين للملكية والحقّ الإلهي، وإقامتهم في هولندا منذ عام 1643، وكان منهم مالبرانش، وريشار سيمون، ومنهم الهوغونوتيون، والمنشقّون عن الملَكية وعن المؤسسات الرهبانية القائمة ذات الفكر المتزمّت وغير المتسامح.
العامل الفكري
أما المقولة الثالثة التي أفلح المؤلف الباحث في نقضها، على ما أعتقد، فهي أنّ الثورات لا تحدث إلاّ بشرط واحد، لا غير، ألا وهو توافر الظروف الاجتماعية الاقتصادية الفاعلة والمؤثّرة لصالح القائمين بها. إذ بيّن، عبر مدوّنته الهائلة المشار إليها سابقاً، أنّ العامل الفكري التنويري تحديداً، كان له الأثر الحاسم على عملية التغيير في أوروبا، وعلى انتقالها من حقبة الملَكية والاستبداد، إلى حقبة ترسي أسس الجمهورية، وتمنح الفرد المواطن المزيد من الحريات والحقوق.
في حين أنّ المقولة الرابعة، وهي التي ألمح إليها المؤلف في سياق خلاصاته، هي أنّ الفلسفة بشقيّها التنويري والمعارض للتنوير، هي التي رسمت سبيل التنوير، وأفضت به إلى الحداثة التي نعمت بها أوروبا في زمن لاحق. وقد يكون للفيلسوف اسبينوزا، عند المؤلّف، المكانة والفضل الأكبران في تشكيل التنوير الراديكالي، والتمهيد للحداثة على الأصعدة كافة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، يتشكّل البحث الضخم "التنوير متنازعاً فيه" من ستة أقسام واثنين وثلاثين مدخلاً أو عناوين فرعية هي أبحاث تتصل بفروع التنوير ومتعلّقاته. ومن عناوين هذه الأقسام على التوالي: التنوير المبكر والثورة والعصر الحديث، والفلسفة وصناعة الحداثة (أسبينوزا والتنوير الراديكالي) وأزمة السلطة الدينية (الإيمان والعقل، هدم الكهنوت)، وصناعة الحداثة وأصول الجمهورانية الديمقراطية، والاستبداد التنويري، وانتصار التنوير المعتدل)، والانعتاق الفكري (الإطاحة بالنقد الإنسي، علمنة المقدّس، وبروز تاريخ الفلسفة)، وحزب الإنسانية، والفلاسفة الراديكاليون، وغيرها من العناوين الفرعية التي يضيق عنها أيّ سجلّ وأي مقال مهما كبر، لضخامة المدوّنات والإحاطة والعمق اللذين عولجت بهما.
ضرورة الفلسفة
تبقى خلاصة ثمينة من كلّ ما ينطوي عليه هذا البحث المرجعي العالمي بكل المقاييس، أنّ الفلسفة، بما تعنيه من تفكّر عقلانيّ عميق تتيح للإنسان "التحرر من أوهامه، واكتساب المزيد من الحكمة بفضل معارفه" على حدّ قول أسبينوزا نفسه.
ومما ينبغي حفظه من هذا الكتاب الموسوعي المرجعي الضخم، والعظيم الأهمية (أكثر من 3000 مرجع، وباللغات الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والهولندية، واللاتينية) أنّ الحداثة والثورة لم تحصلا دفعة واحدة، وإنما كانتا تتمّة أو تحوّلاً في مسار فكريّ طويل، شهد صراعات مستمرّة، بين تيارات من التنوير متفاوتة التوجّهات. وأنّ هذا المسار الفكري، التنويري منه والمعاكس له، لا يزال، إلى حين إعدادنا هذه المقالة، في القرن الحادي والعشرين، الرافعة الأساسية للتقدّم أو التخلّف، مع تبدّل الظروف المكانية والزمانية وشروط الحداثة التي عمّت العالم كله، من خلال أوروبا.
أما الأمثولة التي أسمح لنفسي بأن استخلصها من البحث الضخم، عبر تساؤلات أطرحها على النفس، وعلى الباحثين العرب في شأن تاريخ الأفكار: ألا تحتاج مدوّنات النهضة الثانية لدينا (1790-1900) إلى إعادة نبش وتحقيق وضبط واستخراج حقائق عن أفكار ومصطلحات رأت النور وشاعت ثم لم يتح لها البقاء، أو راجت وباتت في صلب حداثتنا القائمة؟ بلى، نحتاج إلى همّة ذلك الباحث وشموليته وأناته وشغفه بالحقيقة من متونها المدوّنة عبر الأزمنة.