يخبرنا عالم التحليل النفسي برونو بتلهايم في كتابه المرجعي "حكايات الجن" أن ليس ثمة براءة في أية كتابة في نهاية المطاف، ويخص بالذكر الحكايات التي يفترض أن تكون في الأصل مكتوبة للصغار، ومنها حكايات شارل بيرو والأخوين غريم وهانز كريستيان أندرسون عبر تحليلات وافية يُدخل فيها العديد من الأصناف البحثية، مؤكداً أنها حتى لو قُرئت من قبل الصغار بكل "براءة" فإن البراءة أبعد ما تكون عنها. فإذا كان في إمكاننا أن نجاري بتلهايم في هذه الفرضية، ولا يمكننا طبعاً إلا أن نجاريه، أفليس من الأحرى بنا أن نجد تطبيقاً صارماً لهذا التأكيد في كتابات مثل "روبنسون كروزو" و"رحلات غوليفر" وأعمال رابليه وجول فيرن وإتش دجي ويلز؟
أكثر خطورة بكثير
في الحقيقة أن ما ينطبق هنا على "سندريلا" و"ليلى والذئب" و"علاء الدين" و"السندباد البحري" ينطبق من باب أولى على تلك الحكايات الأكثر جدية. وفي هذا السياق يمكن دائماً التوقف عند "رحلات غوليفر" لجوناثان سويفت كي نكتشف أن هذا النص الخالد الذي قرأه الكبار بقدر ما قرأه الصغار، يحمل من الأبعاد ما يتجاوز أي اعتقاد يساورنا حياله. بل ربما يصل الأمر بنا إلى النظر إليه كخلاصة لعدد كبير من تلك الكتب "الخيالية" التي كثرت كتابتها في القرون التالية لعصر النهضة، وكان همها، من خلال ما ترويه من مغامرات وحكايات تداعب المخيلات، أن ترسم صوراً سياسية بل فلسفية تتناول واقع الحال كما الصورة المستقبلية لأزمنة أخرى وعوالم أخرى. ومن هنا، بدلاً من التعامل مع هذه الرواية، مثلاً، كحكاية مغامرات مسلية ومشوقة ولا سيما حين تتناولها أفلام سينمائية معاصرة تستبعد منها سماتها الأكثر جدية، بدلاً من ذلك قد يجدر بنا أن نتوقف عند هذه السمات تحديداً لنجد أن "رحلات غوليفر" ليست بأية حال من الأحوال الحكاية التي نعتقد، بل هي في حقيقتها أكثر خطورة من ذلك بكثير!
تشاؤم سابق لأوانه
ولكن قبل الدنو من هذا البعد، لنعد إلى ما ترويه الحكاية أصلاً. فهي وصف لرحلات خيالية. والرحلات التي يصفها لنا جوناثان سويفت في كتابه هذا، هي أربع رحلات يقوم بها الطبيب الجراح لومويل غوليفر، خلال فترات متقطعة من حياته، حين تقوده كل رحلة من تلك الرحلات وبعض التوابع المتصلة بها، إلى عالم غريب ومدهش لا يقل غرابة عن الآخر. وهو في كل عالم من هذه العوالم يعيش مغامرات صاخبة تصل به إلى حافة الخطر لكنه ينجو دائماً ويعود إلى إنجلترا، أو إلى إيرلندا، حيث ينكب على كتابة وصف لما صادفه. وهذه الكتابة هي التي تحمل في طياتها ما يشبه النظرة القاسية المواربة التي لا يلقيها سويفت على أبناء جلدته الإيرلنديين والإنجليز فقط، بل أيضاً على النوع البشري ككل. وهي النظرة التي تصل في الرحلة الرابعة إلى مستوى من الاستصغار والتشاؤم كان من الطبيعي له أن يدفع كاتباً مثل ثاكري إلى وصف الكتاب، لاحقاً، بأنه "مثير للغضب ومتكالب وفاضح"، وذلك بكل بساطة لأن معاصري سويفت رأوا في هذه الرحلة بخاصة، من التشاؤم حول واقع الإنسان ومستقبله، ما من شأنه أن يقلب المقاييس. وقلب المقاييس كان، على أي حال، واحداً من أهداف سويفت وليس فقط في كتابه هذا.
من عالم الأقزام إلى جزيرة العمالقة
تبدأ الرحلة الأولى حين يحدث للجراح غوليفر أن ينزل من سفينة تجارية كانت تقلّه في رحلة عادية، عند سواحل جزيرة ليليبوت، التي سيفاجأ إذ يجد أن سكانها هم من الأقزام الذين لا يزيد ارتفاع قامة الواحد منهم على ستة إنشات. وهكذا وسط هذا العالم يبدو غوليفر عملاقاً. وإذ يُكتشف وجوده من جانب السكان يجد نفسه مبجلاً بينهم فيتدخل في حروبهم الأهلية وصراعاتهم على السلطة، كما في حياتهم الخاصة في شكل يظهر سخف هذا كله، مشيراً ـمواربةـ إلى الصراعات التي تخوضها الأحزاب السياسية الإنجليزية نفسها في ما بينها. وفي النهاية بعد أن يسوي ذلك كله يعود غوليفر إلى البحر الذي جاء منه وتلتقطه سفينة تعيده إلى وطنه. غير أنه لا يلبث أن يبدأ رحلته الثانية التي تقوده هذه المرة إلى بلاد العمالقة، وتنقلب اللعبة، فإذا به هو الآن القزم، ويتحول لعبة بين أيدي مواطني هذه الديار الجديدة، حيث يعيش في بيت دمية وترعبه "أصغر" الحشرات، إذ تصبح بالنسبة إليه وحوشاً عملاقة. وفي بلاد "البروبدينغنانغ"، ينتهي الأمر بالملك العملاق، بعد أن يصغي إلى وصف غوليفر للأحوال والعادات في أوروبا، أن يستنتج على مسامع هذا الأخير، أن ما سمعه يكشف عن أن شعب أوروبا هو "أسوأ ديدان وجدت على سطح الأرض".
جدية مثيرة للسخرية
ويعود غوليفر من رحلته الثانية هذه، ليبدأ رحلة ثالثة تقوده، هذه المرة، إلى الجزيرة الطائرة "لابوتا" التي يلتقي فيها رجالاً حكماء يمضون وقتهم في العمل بجدّ، ولكن على شؤون مضحكة: واحد منهم يحاول أن يصنع البارود انطلاقاً من قطع الجليد، والثاني يحاول أن يحصل على أشعة الشمس من ثمار اليقطين... وهكذا. وخلال هذه الرحلة التي تقوده بالتالي إلى جزيرة "غلابدوبريب" المجاورة، يدرك غوليفر، بالمراقبة والنقاش، أن كل أدباء أو فناني الإنسانية في الماضي لم يفعلوا أكثر من الكذب على الناس وخداعهم وتصويرهم الجبناء قادة شجعاناً، والفاسدين أطهاراً، وما إلى ذلك. وهنا إذ وصل سويفت في تحطيمه صورة الإنسان عن نفسه إلى تحطيم ماضيه الفكري بعدما حطّم له أفكاره، في الرحلة الأولى، واعتزازه بمكانته في الرحلة الثانية، يصل في الرحلة التالية إلى بلاد الهوينم، حيث تعيش جياد تتمتع بعقل راجح، تستخدم وتستعبد أناساً خلوا من العقل والمنطق وصاروا هم الحيوانات المركوبة في هذا العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أدب ساخر ولئيم
مهما يكن من أمر، حتى وإن كانت قد صدرت طبعات عديدة ومتنوعة من "رحلات غوليفر" محررة ومختصرة من أجل جمهور الصغار، فإن هذا الجمهور لم يكن هو المستهدف من كتابة سويفت روايته. ففي البداية شكل سويفت ورفاق كتاب له من أمثال ألكسندر بوب وجون غاي فريق عمل، غايته كتابة نصوص تسخر من الأنواع الأدبية السائدة. وكان من نصيب سويفت السخرية من أدب الرحلات، وهو أمر أضاف إليه نوعاً من الكتابة شبه الساخرة على أية حال من أدب "المدن الفاضلة"، أي تلك النصوص التي اعتاد فلاسفة كبار من طينة توماس مور وفرانسيس بيكون كتابتها. ومن هنا جاء كتابه يمزج بين النوعين كما جاء في الوقت نفسه منتمياً إلى أدب مغامرات يمكن للصغار قراءته بسهولة. وإلى ذلك كله أضاف سويفت أبعاداً سياسية لم تكن متوقعة، وإن لم تكن بارزة بما يكفي، كانت هي ما أضاف على النص قوته "التخريبية" و"الاستفزازية" التي سيصار إلى التركيز عليها أكثر وأكثر مع تكاثر الدراسات النقدية وتعمقها، إذ راح الباحثون يكشفون أكثر وأكثر أن "رحلات غوليفر" ليس الكتاب الذي يقرأه الجميع ويتلقونه للوهلة الأولى.
التزام قواعد اللعبة
وفي هذا السياق بالطبع راحت التفسيرات والتبريرات تتكاثر من حول أبعاد كانت تعتبر في البداية مآخذ على الكتاب، مثل ما يعتبر عداءً من جانبه للمرأة، ونفوراً مضحكاً ومريراً من الآخرين وتشاؤماً بيّناً إزاء حاضر البشر ومستقبلهم، إذ انتهى الأمر بوضع كل هذا في خانة النقد السياسي والنضال الفكري الذي كان سويفت يخوضه، ويبدو بشكل أوضح في كتابه الكبير الآخر "معركة الكتب"، لكنه يبدو أكثر تكتماً في "رحلات غوليفر"، إذ كانت حرية الكاتب في التصريح محدودة أكثر مما كانت في نصوصه الأخرى، إذ كان عليه أن يلتزم هنا قواعد اللعبة التي وضعها مع شركائه في التوجه العام للمشروع الذي تبنوه.