بعد قرار المجلس الأعلى للسلام، خلال اجتماعه المنعقد بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الخميس الماضي، وإمهال اللجنة المكلفة التفاوض لتسوية أوضاع شرق السودان عشرة أيام، ورفض المجلس الأعلى للسلام فتح منبر جديد للتفاوض مع أي قوى سياسية من شرق السودان (بخلاف استكمال ما أغفله اتفاق مسار شرق السودان الذي هو أحد مسارات اتفاق جوبا للسلام 2020)، عبر عقد مؤتمر لأهل شرق السودان، سيبدو للمرة الأولى أن هناك اكتراثاً حقيقياً من الدولة بخطورة الأوضاع في شرق السودان، إذا ما أُهملت أكثر من ذلك، لأن الأوضاع في هذا الإقليم في ضوء متغيرات محتملة وكبيرة في الجوار بالقرن الأفريقي ربما تلعب دوراً كبيراً بالتأثير سلباً في الأمن والاستقرار في الشرق.
وبهذا، سيكون تفعيل مسار شرق السودان والمضي فيه بعد عشرة أيام كيفما كانت نتيجة التسوية التي ستسفر عنها الأيام العشرة المقبلة، سيعني أن استحقاق سلام شرق السودان عبر المسار الذي هو حصة الحزبين الموقعين على الاتفاق (30 في المئة) من نصيب السلطة والثروة في شرق السودان، فيما ستوزع الـ70 في المئة على قوى سياسية أخرى من شرق السودان. وكان المجلس الأعلى لنظارات البجا قد رفض، في بيان، نتائج اجتماع المجلس الأعلى للسلام، على الرغم من أن هناك تسريبات تفيد بأن ما هو معروض على المجلس الأعلى لنظارات البجا هو نسبة 30 في المئة من السلطة والثروة في شرق السودان أيضاً، وعلى الرغم من أن بيان المجلس الأعلى لنظارات البجا قال إنه سيستمر في التصعيد سلمياً حال المضي قدماً في إقرار وتنفيذ مسار شرق السودان، فإن بعض المنتمين إلى المجلس ظهر بلباس عسكري غير رسمي وهدد بالتمرد على سلطة الدولة، في إشارة واضحة إلى ارتباك صفوف أعضاء المجلس الأعلى لنظارات البجا.
في تقديرنا أنه ستنقضي الأيام العشرة المقررة لمهلة الوصول إلى اتفاق، من دون أن تسفر الأمور عن أي شيء، في ضوء البيان الذي أصدره المجلس الأعلى لنظارات البجا رداً على قرار المجلس الأعلى للسلام. لهذا، فإن ردود الفعل غير المتجانسة من منسوبي المجلس الأعلى لنظارات البجا ستشوش على الأوضاع في شرق السودان. ولقد كان واضحاً في كثير من تصريحات قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا أن ثمة تماهياً بين المجلس والمكون العسكري في السلطة الانتقالية، ولكن يبدو أن أوضاعاً جديدة طرأت على ذلك التماهي، في اتجاه القطيعة.
خلفية أعضاء المجلس الأعلى لنظارات البجا حيال وعيهم السياسي، ومفاهيمهم لحقوق المواطنة، ورؤيتهم بديهيات الدستور السوداني، وفكرة سيادة الدولة على أراضيها وحدودها السياسية، ظلت تشكل باستمرار خلفية مشوشة، وتعكس أزمة في كونها لا تعين على أي أساس للتفاهم السياسي مع معايير مركز الدولة لتلك المفاهيم!
ولقد كان التفاوض معهم على مدى أكثر من سنتين من طرف الدولة يؤدي باستمرار إلى طرق مسدودة. وفي الوقت ذاته، تعتبر طريقة ممارسة السياسة عبر منظور قبائلي- كما هي حقيقة التعاطي الذي يصدر عنه قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا في وعيهم للعمل السياسي- جزءاً من أساليب وطرائق ممارسات النظام السابق في تسييس القبائل. ما يعني أن الانسداد سيظل دائماً سيد الموقف. ففي حين يقرر المجلس الأعلى لنظارات البجا رفضه مسار شرق السودان، ويردد الأمين السياسي للمجلس بأن قادة المسار غير سودانيين، وفي الوقت ذاته يقرر أنهم سيقبلون الانخراط في التسوية إذا ما أُعطوا كمجلس أعلى لنظارات البجا 50 في المئة من نسبة السلطة والثروة، كيف سيتعين علينا أن نفهم موقفهم الرافض المسار كموقف سياسي؟
فإذا كان رفضهم المسار متعلقاً بإدراجهم ضمن المحاصصة من كعكة السلطة فحسب، فكيف نفهم رفضهم الأصلي مبدأ مسار الشرق، الذي وصفوه بأنه مسار تسبب في الفتنة بسبب أن قادة أحزابه غير سودانيين؟ هذا التخبط في الموقف المشوش من المسار يعكس طريقة فوضوية في ممارسة السياسة، ولا يعبر عن أي تماسك أخلاقي أو عقلاني. ويعزز ذلك لجوء قيادة المجلس الأعلى لنظارات البجا إلى لغة الوعيد والتهديد، بردود فعل تتضمن مقايضة واضحة للسلم الأهلي، وتهديداً بقطع الطريق القومي الواصل بين ميناء السودان والخرطوم، والتهديد بانفصال الشرق في حال لم يُستجب لمطالبهم، أي بممارسة أفعال غير سياسية على مخرجات سياسية!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحار المرء إزاء مطالب قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا التي يحسبونها مطالب سياسية، ومنها: تحديد مناطق قبائل شرق السودان وحدودها التاريخية ما قبل الدولة، أو مراجعة الهوية الوطنية لفئة معينة من سكان شرق السودان، أو الدعوة إلى تفعيل آلية قبائلية (تسمى القلد، وهي آلية تحكيمية لفض نزاعات القبائل في البادية) في قضايا صراع سياسي داخل المدينة. وهذه أمور لا تطرحها بقية الأحزاب في شرق السودان، سواء اليسارية أو اليمينية. الأمر الذي يؤكد أن الهوية القبائلية في ممارسة السياسة عبر خطاب هذا المجلس هي لعبة خطرة جداً أشبه بلعبة البيضة والحجر!
وفي خلفية تأويل سياسوي يتعاطى السياسة من منظور القبيلة (كما يعكسه المجلس الأعلى لنظارات البجا) ستكون هناك تأويلات خاصة لمفاهيم كالشعب والحدود والمواطنة، إذ إن التماهي الذي يصدر عن هذا الفهم هو تماهٍ خاص يجعل من الشعب دالة على القبيلة، ومن الوطن دالة على حيازات القبائل وحدودها، ومن المواطنة رؤية تقتصر على علاقة أفراد مكون واحد من مكونات شرق السودان. إذ إن البجا سيكونون هم شعب شرق السودان الأوحد في هذه الحالة، وليس جزءاً من مواطني شرق السودان الذين يعيشون فيه من غير البجا. (فهؤلاء، أي بقية شعب شرق السودان من غير البجا- وفق هذا الفهم- سيكونون عبارة عن ضيوف يعيشون بأدب بين يدي مضيفيهم وليسوا مواطنين كاملي الحقوق كما ردد ذلك أحد قادة هذا المجلس). هذا فضلاً عن الممارسات التمييزية التي انعكست في تصرفات بعض أفراد القبائل البجاوية في شرق السودان بإيعاز من المجلس الأعلى لنظارات البجا، كتعطيل بعض المواطنين عن أعمالهم، والطلب بعدم حضورهم إلى أماكن عملهم من مديري الشركات التي تستخدمهم سواء في الموانئ أو المطار أو أماكن التعدين، بحجة أن الأراضي التي يعمل فيها هؤلاء المواطنون تقع في حدود القبائل (وهي مناطق أحياناً تقع داخل المدن كالمطار). وللأسف، لقد استجاب والي البحر الأحمر لتلك الضغوط، مما تسبب في حرمان مواطنين آخرين من أعمالهم التي يكفلها الدستور السوداني، وما زال وضعهم حتى الآن كما هو!
قد يبدو أننا لا نملك معرفة كاملة بكيفية تصرف كيان يتعاطى السياسة من منظور القبيلة كالمجلس الأعلى لنظارات البجا، على النحو الذي ذكرنا تأويلاته الخطيرة والمفخخة للسلم الأهلي، لكن في ضوء تلك المفاهيم المعطوبة، يمكن القول إن شرق السودان سيتحول إلى طريق ملكي للحرب الأهلية، في حال وضع تلك المفاهيم المفخخة موضع التنفيذ في سياسات ذلك المجلس! الأمر الذي سينشأ عنه سؤال: ما الضمانات التي تكفل عدم انعكاس ممارسات ذات منظور قبائلي في أي من سياسات متنفذي ذلك المجلس، في حال استيعابهم ضمن النصيب الذي اقتُرح للمجلس الأعلى لنظارات البجا، أي نصيب 30 في المئة من السلطة والثروة في شرق السودان؟