تمثل النساء كما هو معلوم، نسبةً كبيرة من العاملين في أدوار رئيسة في المملكة المتحدة. فقرابة ثلاثة أرباع الموظفين في مرافق "الخدمات الصحية الوطنية" NHS كما في قطاع التعليم، هم من النساء، في حين أن أكثر من ثمانية أفراد من كل عشرة يعملون في مجال الرعاية الاجتماعية للبالغين، هم من الإناث.
وفي الوقت الذي تجهد فيه النساء طيلة ساعات النهار والليل للحفاظ على سير الأمور في البلاد أثناء فترة الوباء، فقد عانى كثير من الإناث العاملات في أدوار على الخطوط الأمامية في مواجهة جائحة "كوفيد"، إما من تحرش جنسي، أو من إساءة إليهن، أو من تمييز ضدهن.
إليزا هاتش المصورة الصحافية التي أنجزت مشروعاً يسلط الضوء على التحرش الجنسي ضد النساء في الشوارع، أطلقت عليه تسمية "تشير أب لاف" Cheer Up Luv، نشرت سلسلة صور جديدة بعنوان "التحرش على خط المواجهة" Frontline Harassment، الهدف منها استكشاف حالات الترهيب والمضايقات التي تُجبَر عاملات رئيسات على تحملها بشكل روتيني.
وتقول السيدة هاتش، التي شاركت مشروعها حصرياً مع صحيفة "اندبندنت"، "أردتُ العام الماضي، من خلال التركيز على عاملين أساسيين في فترة الوباء، الاستماع إلى بعض القصص التي تحصل على الخطوط الأمامية في مواجهة العدوى، التي نادراً ما تأخذ حقها من الاهتمام لدى الرأي العام".
في ما يأتي سنعرض شهادات شخصية لساعية بريد وممرضة وطبيبة وقابلة وعاملة سوبر ماركت، وهي عينات عن بعض من تلك الواردة في سلسلة صور السيدة هاتش، وبما أن كل قصة من قصصهن تشكل حالةً فريدة من نوعها، إلا أن جميعها تلتقي على حقيقة أنهن تعرضن جميعاً لمضايقات خلال قيامهن بأداء وظائفهن.
وتلفت ديبا سيد كبيرة المسؤولين القانونيين في مؤسسة "حقوق النساء" Rights of Women المنظمة التي تقدم مشورةً قانونية مجانية للنساء اللواتي يتعرضن لتحرش جنسي في أماكن العمل، إلى أن "الإناث كن في الغالب على خطوط المواجهة الأمامية أثناء فترة الوباء، وعملن في أدوار أساسية كالممرضات ومقدمات الرعاية الصحية والعاملات في محلات السوبر ماركت، اللواتي كن متفانيات في عملهن لتزويدنا بالخدمات اللازمة في ظل تفشي الجائحة".
وتضيف، "لكن لسوء الحظ، اضطُرت كثيرات منهن أيضاً إلى مواصلة العمل أثناء تعرضهن لمضايقات وحالات من التمييز. وقد أخبرتنا النساء اللواتي اتصلن بنا بأن الجناة، الذين عادةً ما يكونون في موقع القرار ولديهم سلطة على الضحايا، قد استغلوا ظروف الوباء لتحقيق مصالحهم وإساءة معاملتهن".
وأعطت سيد أمثلةً على أنواع الاستغلال تلك بالقول، "كان يُرفض السماح لهن بأخذ إجازة غير مدفوعة في حين كان يُمنح موظفون آخرون هذا الحق. وكان يتم تعريضهن لمضايقات متزايدة بسبب قلة عدد الشهود الحاضرين. أما الآن ومع إعلان أرباب العمل تسريحهن من الوظيفة، تجد النساء اللواتي أبلغن عن تحرش جنسي بهن، أنه جرى اختيارهن بشكل غير عادل، بغية التخلص منهن، وذلك في إجراء عقابي لهن لأنهن تجرأن وتحدثن علانيةً عما تعرضن له".
ونبهت المسؤولة القانونية في الجمعية الخيرية إلى ضرورة أخذ أرباب العمل زمام المبادرة في هذا الصدد "بشكل ملح"، والتحرك لاحتواء هذه المشكلة، وتمكين النساء العاملات في الخطوط الأمامية من أداء وظائفهن دون التعرض لمضايقات".
ساشا بيرن - ساعية بريد
تصف بيرن الآنسة التي تعمل ساعية بريد، كيف وصلت الأمور معها إلى حدها في مطلع هذه السنة، حين كان عليها أن تتفادى نوبات من الهلع، عندما كانت تقوم بتسليم الرسائل البريدية إلى المنازل الموجودة ضمن نطاق عملها.
وتقول الشابة التي تبلغ من العمر 25 سنة في هذا الإطار، "كنت أشعر بمرارة واشمئزاز عندما كنت أرى شاحنات تابعة للمؤسسة تمر من جانبي، إذ كنتُ أترقب سماع صرخات، أو مشاهدة نظرات غريبة، أو التعرض لتعليقات جريئة ومنتهكة لمظهري الخارجي. وكنتُ بصفتي ساعية بريد، أتعرض للصراخ في وجهي من جانب العاملين الرجال في معظم أيام الأسبوع. وفي بعض الأسابيع، كان يتكرر الأمر كل يوم".
وتؤكد أنها تشعر بالخوف والخطر على نحو روتيني أثناء قيامها بعملها، لكنها تُضطر إلى "الابتسام ومواصلة سيرها"، على الرغم من حقيقة أن الابتسام بأدب لأشخاص يحملقون بها بنظرات تنطوي على نيات جنسية، هي آخر شيء تريد القيام به.
وتضيف ساشا بيرن، "عندما لا أرد أتعرض لمزيد من الصراخ أو التهكم. من هنا، أجد أن الابتسام هو الخيار الأسهل. في الواقع، سئمتُ من أن أعامَل بهذه الطريقة، فقط لكوني امرأة. إذ إنني، كما زملائي الذكور، أريد فقط العمل للتمكن من تسديد فواتيري".
راشيل كوكس - عاملة سوبر ماركت
حين كانت الآنسة كوكس العاملة في أحد محلات السوبر ماركت، تهتم بشؤونها خلال فترة الوباء، وتهم بشرب الماء خلف منصة الدفع، فاجأها رجل مسن بلمسها.
وتقول الشابة التي تبلغ من العمر 23 سنة، "شعرتُ بنوبة من الغضب والإحباط. هذا الوضع تعرضت له نساء كثيرات. صرختُ في وجهه وقلتُ له إنه لا يستطيع أن يلمسني من دون موافقتي. إلا أنه استرسل في الضحك. قمتُ بإبلاغ مدرائي على الفور بما حصل، إلا أن بعضهم لم يصدقني، واعتقدوا أنه كان حادثاً غير مقصود، أو لم يروا أنه كان من الخطورة بمكان، لأن الشخص الذي قام به هو "مجرد رجل مسن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف، "بعدما شعرتُ بالهزيمة واليأس، بدأتُ أتكلم مع زميلات أخريات لي عن الوضع. وتبين لي أن ثلاث موظفات أخريات تعرضن للتحرش من الرجل نفسه".
وتشير راشيل كوكس إلى أنها طلبت من مدرائها اتخاذ تدبير لمنع هذا الرجل من الدخول إلى المتجر، إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل على مدى ثلاثة أشهر. وتؤكد أنه "في كل يوم، وعلى مدى أشهر، كان علي أن ألتقي وجهاً لوجه مع هذا المفترس المسن".
عندليب أحمد - طبيبة عامة
تكشف عندليب أحمد وهي طبيبة عامة تعمل في شمال غربي لندن، عن أن أنها "تعرضت للمضايقة بسبب لون بشرتها"، وذلك أثناء دراستها في إحدى كليات الطب، كما خلال عملها في أحد مرافق "الخدمات الصحية الوطنية".
وتقول الطبيبة التي تبلغ من العمر 61 سنة، "لقد كنتُ طوال مسيرتي المهنية عرضةً لكثير من المضايقات الكلامية المتعلقة إما بالتزاماتي في العمل من قبيل، "النساء من نوعك يجب أن يتزوجن وأن ينجبن أطفالاً"، أو بمؤهلاتي "هل أنتِ متأكدة من أنك لا تريدين أن يقوم زميل ذكر بهذا العمل بدلاً منك"، أو التهكم من خلفيتي المعرفية مثل القول لي، "عجباً! من الرائع أنك تعرفين الكثير وتستطيعين التمييز والتحليل". لكن الأسوأ من ذلك كله أن أحد المرضى رفض أن أقوم بمعالجته، وشتمني بقوله، "لن أتلقى العلاج من (باكي...)". وأخيراً عندما بدأتُ ارتداء الحجاب، ارتفع مستوى الترهيب ضدي بإطلاق صفة "إرهابية" علناً علي، وتطور الأمر إلى اعتداءات كلامية لاذعة من نوع، "يا إلهي، ألا تشعرين بالحرارة نتيجة هذا الشيء الذي تضعينه على رأسك".
وتوضح الطبيبة المذكورة أنها كانت خلال فترة الوباء ترد من بُعد، على المكالمات الواردة على الخط الساخن 111 (خدمة هاتفية استحدثتها هيئة الخدمات الصحية الوطنية لطالبي الاستشارة أو العلاج السريع)، لأنها كانت تبتغي وضع مسافة بينها وبين الآخرين، إلا أنها أكدت أنه، على الرغم من ذلك، تعرضت لمقدار كبير من الإساءة اللفظية خلال تلك الفترة.
وتتابع عندليب أحمد كلامها، "عندما نعمل في "الخدمات الصحية الوطنية" على مدى 25 عاماً، نصبح مخدرين ولا نعود نأبه من سوء المعاملة، أو نكترث للكلمات البذيئة الموجهة إلينا".
وتلفت الطبيبة إلى أنها عانت من سوء المعاملة أثناء عملها في خدمة المجتمع المحلي، عندما كانت تتصدى لمعلومات مضللة تتعلق بأزمة "كوفيد"، مؤكدة أن تلك الإساءات كانت في غالبها تأتي من الرجال.
وتقول في هذا الإطار، "لقد شعروا بالتهديد لكوني امرأة، وأتحدث بصراحة. هذه المسألة مرتبطة بالثقافة السائدة في دول جنوب شرقي آسيا التي تفترض أن المرأة تصلح فقط لأن تُشاهد لا لأن يُستمع إلى آرائها. إن توجيه التحية والتصفيق لجهود "الخدمات الصحية الوطنية" كان مجرد لفتة من الحكومة أثارت كثيراً من الضجيج، إلا أنها أصبحت الآن طي النسيان، وباتت مجرد ذكرى بعيدة".
لين - ممرضة
تؤكد لين التي لم ترغب في الكشف عن اسم عائلتها، أنها تعرضت لاعتداء جنسي أثناء قيامها بمهامها ممرضةً طالبة في المستشفى. وتقول الشابة التي تبلغ من العمر 27 سنة، "فيما كنت متكئةً على المكتب، مر بي أحد المرضى ولمس مؤخرتي. لقد كان ما قام به عملاً عدوانياً وصادماً إلى حد جعلني أتساءل على الفور، هل حدث هذا حقا؟ أصبتُ بذهول تام، وشعرتُ برغبة كبيرة في البكاء".
وتضيف أن المريض نفسه الذي تحرش بها، مضى بعد ذلك في طريقه وكأن شيئاً لم يحدث، على الرغم من بكائها. وتتابع سرد وقائع الحادثة، "إن عدم تصديق المشرفة علي لِما حصل، كما الموقف اللامبالي من جانب المريض، دفعا بي، أنا الطالبة الساذجة، إلى أن أستسلم وألتزم الصمت. إلا أن الخبر سرعان ما انتشر من حولي، لكن اتضح لي في ما بعد، أن هناك أشخاصاً "لا يريدون التورط" في الأمر.
وخلصت إلى القول إن "ما حدث لم يكن شجاراً أو اشتباكاً. إنه تحرش جنسي بحت. وفي مثل هذه الحال، ينبغي اتخاذ موقف، ومساندة الحق! هذه ليست التجربة الأولى أو الأخيرة. لكن كانت تلك المرة الأولى التي أدركتُ فيها أن شعار "عدم التسامح"zero tolerance المتداول (بالنسبة إلى التحرش الجنسي) هو مجرد رمز، وأن معظم الناس لا يريدون التورط".
داني بوين - قابلة
تقول بوين التي تعمل قابلةً في أحد المستشفيات في جنوب غربي لندن، إنها واجهت حادثةً مزعجةً مع زميل لها كان يشرف على تدريبها. وتشرح الشابة البالغة من العمر 26 سنة ما جرى معها بالقول، "كنتُ بمفردي برفقة ذلك الرجل داخل حجرة صغيرة كان بابها مغلقاً، الأمر الذي شكل إحراجاً كافياً بالنسبة إلي. أما هو فلم يكف عن إخباري عن أن لديه صديقاً يتمنى الزواج بي، وتأسيس أسرة معي إذا ما أردتُ ذلك".
وتتابع، "بدأ يكيل المديح لشخصيتي المستقلة، مفترضاً أنني عذراء ولدت من جديد. لم أصدق أنه كان يقول لي مثل هذه الأشياء، وقد استرسلتُ في الضحك بحرج، لأنني لم أعرف في الحقيقة كيف أرد عليه. ومن ثم قام بوضع يده على فخذي وقال لي، "لا بأس، أنتِ مجرد فتاة لا تحتاج لمداعبة جنسية حقيقية". لم أستطع تصديق ذلك حتى أنني ظننتُ أنني ربما أسأت سماع ما قاله لي. ولم أدرك كم كان ذلك غير لائق، إلا عندما أخبرتُ إحدى زميلاتي بما حدث. أعتقد أن الصدمة الأكبر لي، تكمن في وقوع مثل تلك الحادثة خلال مناوبتي في العمل وفي كونه زميلاً لي".
كيران رحيم - دكتورة
ترى السيدة رحيم وهي طبيبة، أن العنصرية داخل المرافق التابعة لـ "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" هي "قضية مزمنة تعود إلى أمد طويل"، مضيفةً أن لديها كثيراً من الروايات المماثلة، من أبرزها، بحسب ما تقول هذه المرأة البالغة من العمر 35 سنة، إنه حينما كانت طبيبة مبتدئة، كانت الطبيبة المشرفة عليها تضايقها باستمرار بسبب اختيارها للأطعمة التي كانت تتناولها، وكانت تتوجه إليها بعبارات مثل، "ما هذا "القرف البني" الذي تتناولينه اليوم؟ إن جميع أطعمتك كريهة الرائحة! - ويا إلهي، كيف تتناولين مثل هذه المأكولات؟".
وتوضح أنها كانت تتناول أطباقاً مثل الـ"دال" (أكلة شعبية في الهند وبنغلاديش تجمع بين العدس والبهارات) والكاري الأخضر التايلاندي، في غرفة الموظفين، عندما كانت زميلتها تكيل لها مثل هذه الملاحظات.
وتتابع رحيم بالقول، "كنتُ من بين قلة من الموظفين المسلمين ذوي البشرة السمراء. من هنا، لم أكن أمتلك الشجاعة الكافية لصدها. وفي النهاية، توقفتُ عن تناول الطعام في غرفة الموظفين وكنت أتوجه إلى حجرة المناوبة الخاصة بالأطباء في الجهة المقابلة للمستشفى.
وتختم بالقول، "من ثم أخذتْ وتيرة المضايقات (من الطبيبة المشرفة) في التصاعد، لتطاول حدة انتقاداتها أدائي وعملي كطبيبة. بحيث راحت تقول لزملائي الأعلى مني رتبة، إنني كنت أرفض الرد على إشعارات الإنذار، أو أفوت بعض الأشياء، أو أهم بالمغادرة في وقت مبكر. وفي النهاية، تدخل طبيب أبيض آخر وقال، إنه سيقوم بالإبلاغ عنها في حال لم تتوقف عن مضايقتي. لقد نجح في وضع حد لتلك الإساءات الواضحة. لكنها وجدت بعد ذلك طرقاً أخرى للتعبير عن سخريتها مني بسبب هذا الأمر".
© The Independent