منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، يمارس الباحث الناقد السعودي سعد البازعي حضوره، على الساحة الثقافية العربية، ويوزعه على حقول معرفية شتى وأنشطة ثقافية مختلفة. وهو حضور فاعل تمخض عن سبعة وعشرين كتاباً في النقد والفكر والثقافة والترجمة، حتى تاريخه، فاعتُبِر واحداً من أبرز النقاد العرب، واستحق جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في مجال النقد الأدبي عام 2017. ولعل كتابه الجديد "سؤال المعنى في الأماكن والفنون"، الصادر عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، هو آخر تمظهرات هذا الحضور.
يشتمل الكتاب على اثنين وعشرين مقالاً، نُشِرَ معظمها بين عامي 2015 و2018، يتمحور نصفها الأول حول الفنون، ونصفها الثاني حول الأماكن، ويحاول صاحبها فيها اكتناه المعنى وسبر الأغوار في ما يتعدى السطوح المفتوحة للحواس. وهو، لا يفعل ذلك من موقع الناقد الفني المحترف أو كاتب الرحلات المتخصص، بل من موقع الهاوي، المحب، المتأمل. لذلك، تأتي مقالاته على شكل "انطباعات ممزوجة بمرئيات حركتها الأماكن أو استدعتها الأعمال" الفنية (ص 9)، على حد توصيفه.
تداخل الفنون
يُفرد الكاتب النصف الأول من كتابه، لثلاثة من الفنون، سَمَعي هو الموسيقى، بَصَري هو الرسم، وسَمَعي ـ بَصَري هو السينما. يخص الأول منها بمقال واحد، والثاني بثلاثة، والثالث بسبعة هي حصة الأسد من المقالات الفنية. ويروح يكتنه المعنى الثاوي في أعماق آثار فنية معينة، تنتمي لهذا الفن أو ذاك.
"وإذا كانت الفنون تتداخل على مستوى الإبداع أو الإنتاج فإنها تتداخل مرة أخرى حين يحاول النقد أن يقرأها فهو مضطر حينئذ إلى استنهاض لغة وتقنيات وخبرات يمتلك بعضها ولا يمتلك بعضها الآخر ..." (ص 12). انطلاقاً من هذا التداخل، الذي يشير إليه الناقد في مقدمة كتابه، ولأن الفنون "تظل متأبية على التخصص، منفتحة على ألوان ومستويات من الوعي والذائقة، محتملة للمختلف من ألوان التعاطي أو التناول" (ص 12)، على حد تعبيره، ينخرط البازعي في قراءة ذاتية انطباعية لبعض الآثار الفنية، يوظف فيها ثقافتة الواسعة ووعيه العميق وذائقته المرهفة، ويخرج بمقالات يتجاور فيها، الانطباع والرأي، الذاتي والموضوعي، والخاص والعام. تشكل مادة نقدية سلسة، يسوغ تناولها، ويسهل هضمها. على أن الباعث على الكتابة عنده يختلف من فن إلى آخر، ويتراوح بين قراءة كتاب أو زيارة معرض أو حضور فيلم سينمائي وغيرها.
الموسيقى والمعنى
يشكل اطلاع البازعي على كتاب "الموسيقى والمعنى"، الصادر بالإنجليزية عن جامعة كورنيل عام 1997، باعثاً له على الكلام عن الموسقى، فيقوم بقراءة تفاعلية للكتاب، لا يكتفي فيها بعرض آراء الموسيقيين وأساتذة الموسيقى الذين شاركوا في إعداده، بل يتدخل سائلاً أو مستدركاً أو معلقاً. ويخلص إلى إجماع المعدين على وجود معنى في الموسيقى يختلف عن المعنى اللغوي، لكنهم لا يقومون بتحديد هذا المعنى، بل يتلمسونه من خلال علاقة هذا الفن بالسرد والحكاية والتمثيل والرسم وسواها من الفنون.
ويشكل حضوره معرضاً في الرياض للفنانة التشكيلية السعودية نجلاء محمد السليم باعثاً للكلام عن الرسم، فيقرأ في لوحاتها جدلية العلاقة بين المدينة والصحراء، ويزاوج في قراءته بين المستويين التقني والنظري، ويخلص إلى أن المهم ليس روح المدينة وليس روح الصحراء بل روح الإبداع التي تحملهما معاً. وينطلق البازعي من خلفيته الدراسية الأكاديمية ليضيء دور الاستشراق في الاهتمام بالفنون الموسيقية والأدائية، الموجودة عند العرب، من خلال اهتمامات الفرنسي رودولف دير لانجير والأيرلندي هنري جورج فارمر والأسكتلندية كريستينا نلسن، في وقت كان العرب فيه غافلين عما بين أيديهم من كنوز. ويتخذ من لوحة "النساء الجزائريات" للرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا مثلاً تطبيقياً للرؤية الاستشراقية للثقافة العربية، يطرح سؤال الواقع، ويستلهم منه الرسام الفرنسي الآخر بيكاسو لوحة يرسمها بطريقته التكعيبية وبالعنوان نفسه، وتستوحي منه الكاتبة الجزائرية الفرانكوفونية آسيا جبار موضوعاً لمجموعة قصصية بالعنوان نفسه.
أفلام عالمية
ويشكل حضور البازعي مجموعة من الأفلام السينمائية باعثاً للكلام عن فن السينما، فيتلمس، في مقال أول، معنى الطفولة في خمسة أفلام عالمية، بما هي منقذ للعالم، ومصدر لِقَيَم أخلاقية ومعان إنسانية. ويرصد، في مقال ثان، حركة السينما السعودية وتطورها وقدرة الفيلم السعودي على المنافسة. ويتناول، في مقال ثالث، استخدام السينما الأميركية كأداة سياسية تخدم أجندة حزبية معينة، من خلال فيلم "أميركا هيلاري" للمخرج الأميركي دنيش دي سوزا، ما يشكل إساءة إلى الفن والثقافة باسمهما. ويقارن، في مقال رابع، بين واقعين ثقافيين مختلفين في الهند وأستراليا، من خلال فيلم "لايون" للمخرج الأسترالي غارت ديفيز. ويطرح، في مقال خامس، سؤال الفرد في مواجهة المجتمع ومؤسساته، من خلال فيلم "كابتن فانتاستك" الأميركي.
ويطرح، في مقال سادس، سؤال التمييز العنصري في أميركا، خلال الحرب الأهلية الأميركية، في ستينيات القرن التاسع عشر، من خلال فيلم "ولاية جونز الحرة" للمخرج الأميركي غاري روس. ويقدم، في مقال سابع، قراءة انطباعية في فيلم "كافي سوسياتي" للمخرج الأميركي اليهودي وودي ألن الذي ينتقد فيه أبناء بجدته ويبرز دورهم في الوقت نفسه. وخلال هذه العمليات، يوظف البازعي ثقافته المتنوعة، فيدخل إلى السينما من فن آخر، أو ينطلق منها إليه، فتستدعي مشاهدة فيلم كتاباً شهيراً، أو يدخل إلى فيلم من باب الشعر، انطلاقاً من إيمانه بصلات القربى بين الفنون المختلفة.
أماكن وزيارات
إذا كان البازعي قد أفرد نصف كتابه الأول للفنون، على اختلافها، فإن النصف الثاني منه موقوف على الأماكن، على تباعدها. وهو كما أنه لم يدخل إلى الفنون من باب الناقد الفني، فإنه لم يدخل إلى الأماكن من باب الرحالة، فجاءت كتاباته حولها وصفية في مقالات متفرقة دون أن تنخرط في مشروع واحد لأدب الرحلة. على أن دوافع الزيارة، واستطراداً الكتابة عنها، تختلف من مكان إلى آخر، فيزور حائل السعودية لإلقاء محاضرة بدعوة من ناديها الأدبي. ويزور اللاذقية السورية، في عام 2008، للمشاركة في تكريم الروائي السوري نبيل سليمان. ويزور مسقط العمانية، في عام 2017، لتسلم جائزة السلطان قابوس. ويزور طنجة المغربية مع أسرته، في عام 2019. ويزور اليابان، في عام 1996، في إطار تعزيز التواصل العالمي. ويزور بولندا، في عام 2002، للمشاركة في مؤتمر علمي. ويزور فلورنسا الإيطالية، في عام 2017. ويزور سويسرا مع العائلة في عام 2017. وهكذا، تختلف دوافع الزيارات، وتتعدد الأماكن المَزُورَة، ولا يعود الزائر، في أي منها، من الغنيمة بالإياب، بل يعود بخلاصات جامعة مانعة، تلخص معنى المكان في جملة واحدة أو بضعة جمل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا السياق، يطالعنا التسامح والانفتاح على الآخر في المعالم الأثرية العُمانية، والتداخل بين الثقافات في طنجة المغربية، والتواضع العمراني غير المتناسب مع عراقة اللاذقية السورية، وعراقة كيوتو ونظافة طوكيو اليابانيتين، وغنى وارسو البولندية بالمبدعين، وجمال البحيرات البريطانية، واحتجاب الجمال الفلورنسي تحت الركام المعلوماتي والتنميط السياحي، وجمع سويسرا بين إلهية الجمال الطبيعي وبشرية المنجز الحضاري...، ما يجعل من رحلاته السندبادية مصادر للمتعة والفائدة. ولا يفوت البازعي أن يذيل كتابه بمجموعة من الصور الفنية والرحلية التي تشكل قيمة مضافة إلى نقده الفني الانطباعي ونصوصه الرحلية الوصفية.
وبعد، "سؤال المعنى في الأماكن والفنون" مطروح بكثير من السلاسة والطبَعية، ما يجعل قراءة الكتاب محفوفة بفائدة المعرفة ومتعة الاكتشاف.