دخل المشهد السياسي الماليزي فصلاً جديداً من الدراما السياسية والمناوشات متعددة الأطراف مما يجعل الموقف الحالي أكثر تعقيداً في ظل أزمة وبائية غير مسبوقة تشهدها البلاد خصوصاً بعد دخول الفيروس المتحور البلاد. كما أن حكومة محيي الدين ياسين تواجه تشكيكاً مستمراً بشأن عدم امتلاكها الأغلبية البرلمانية منذ اليوم الأول لولادتها، فيما تصارع الحكومة الحالية الزمن للبقاء أطول فترة في سدة الحكم عبر تحركات واسعة داخلياً وخارجياً.
حكومة من دون انتخابات
بدأ التوتر السياسي على الساحة الماليزية منذ فبراير (شباط) العام الماضي، مع استقالة رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد بشكل مفاجئ من دون أسباب، معلناً سقوط حكومة تحالف الأمل وعودتها إلى مقاعد المعارضة. كانت قد تكونت حكومة تحالف الأمل من الأضداد في حزب عدالة الشعب الذي يتزعمه أنور إبراهيم، حزب العمل الديمقراطي "الصيني"، "حزب أمانة"، إضافة إلى حزب "برساتو" الذي كان يترأسه مهاتير الخصم السابق لأنور إبراهيم الذي لبث في السجن بضع سنين بسبب فضيحة جنسية.
الانتخابات العامة التي تمت في 2018، تسببت في خسارة تاريخية لحزب "أومنو" الذي حكم البلاد منذ استقلالها ولستة عقود، كما أن حزب "برساتو" الذي ترأسه سابقاً مهاتير محمد وخلفه رئيس الوزراء الحالي محيي الدين ياسين، لم يعد جزءاً من التحالف المعارض، فيما اتهم مهاتير في وقت لاحق محيي بالخيانة لمحاولته الانقلاب عليه وإسقاط الحكومة.
بعد عامين من وصول مهاتير لسدة الحكم ووعده شريكه أنور إبراهيم الذي كان له دور كبير في الفوز بالانتخابات، كان على مهاتير أن يفي بوعده ويسلم السلطة إلا أن الأخير استقال من دون سابق إنذار وفوت الفرصة على أنور للفوز بالمنصب الذي طال انتظاره، وتركه في صراع مع لعبة الأرقام لإثبات أحقيته برئاسة الوزراء من محيي الدين ياسين.
تدخل ملك ماليزيا السلطان عبد الله رعاية الدين المصطفى بالله شاه وكلف محيي الدين ياسين بتشكيل حكومة جديدة بدلاً من الدعوة لانتخابات عامة مبكرة، وادعى الزعيمان مهاتير وأنور إبراهيم حينها عدم امتلاك محيي الدين الأغلبية البرلمانية اللازمة لتنفيذ التكليف الملكي. وسعى محيي الدين بتحالفه الوطني للم شمل الأحزاب وبعض من البرلمانيين لإثبات امتلاكه الأغلبية التي تؤهله لقيادة البلاد من خلال تأييد معظم البرلمانيين وعددهم 222 عضواً، وهو الأمر الذي لم تستطع الحكومة الحالية إثباته حتى هذه اللحظة.
واستطاع محيي الدين تكوين حكومته مطلع مارس (آذار) 2020 بالتحالف مع الجبهة الوطنية بقيادة حزب "أومنو" وهي الكتلة الأكبر داخل التحالف إضافة إلى الحزب الإسلامي الماليزي، وحزب "برساتو" الذي تركه مهاتير وأربعة نواب آخرين.
الطوارئ لتعليق البرلمان
يرى محللون أن السلطان عبد الله سعى للحفاظ على استقرار البلاد سياسياً في ظل تفشي الوباء العالمي، من خلال دعوة النواب إلى دعم ميزانية الحكومة في نهاية العام الماضي، كما أقر الملك الماليزي طلب محيي الدين إعلان حالة الطوارئ في يناير (كانون الثاني) الماضي.
خطوة إعلان حالة الطوارئ رفضتها المعارضة ومن كانوا حتى وقت قريب في صف التحالف الوطني الحاكم وعلى رأسهم قادة "أومنو"، ورأى كثيرون أن قانون الطوارئ ما هو إلا ذريعة لبقاء محيي الدين في السلطة حتى الآن. كما أن تعليق عمل البرلمان بقانون الطوارئ، أصبح شوكة غصت بها الحكومة الحالية وتقوت بها المعارضة التي باتت تقوى يوماً بعد يوم، إلى أن وصل سقف مطالبات المعارضة باستقالة محيي الدين وحكومته.
حكومة متماسكة واحتجاجات شعبية
شهدت الأيام القليلة الماضية عدداً من الاحتجاجات قام بها نشطاء ونواب المعارضة وكذلك أطباء. فقد قام النشطاء الشباب بتنظيم مسيرة "الرايات السوداء" تعبيراً عن غضبهم من الحكومة وطالبوا باستقالة محيي الدين، فيما تظاهر نواب المعارضة اعتراضاً على منعهم من دخول البرلمان الذي تم تعليقه مجدداً كما تم اعتراض المسيرة من قبل الشرطة، وبالتزامن مع الإغلاق المفروض حالياً والذي استمر لأكثر من عام ونصف العام، قام عدد من الأطباء المتعاقدين مع الحكومة بتنظيم إضراب للمطالبة بمزيد من الامتيازات ومساواتهم مع الأطباء الدائمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، تمسكت الحكومة بموقفها ساعية للبحث عن شرعيتها دولياً من خلال زيارات خارجية مكثفة طالت الأرض من أقصاها إلى أقصاها، فيما صب تركيز الحكومة الحالية على الحلفاء القدماء من دول الشرق الأوسط حيث تركزت الزيارات على جذب استثمارات أجنبية من الدول الصديقة والغنية لدعم اقتصاد متهالك يوشك أن ينهار بسبب الإغلاق المفروض لما يقرب من 600 يوم.
وركز محيي الدين ياسين جل اهتمامه على مكافحة الوباء العالمي والنهوض الاقتصادي من خلال حزم تحفيزية وإعلان تطبيق قوانين تقييد الحركة للحد من انتشار الفيروس، لكن المعارضة ترى أن الإغلاق الكامل قد شل عجلة الاقتصاد ولم يتمكن من احتواء انتشار الفيروس، وأن الهدف الحقيقي وراء ذلك الإغلاق هو إطالة عمر الحكومة.
تصادم مع القصر
بدأت مطالبة ملك ماليزيا السلطان عبد الله رعاية الدين المصطفى بالله شاه واضحة ومباشرة تستوجب عودة انعقاد جلسات البرلمان وتأكيد القصر على عدم ضرورة تمديد الطوارئ، وسمحت الحكومة بعودة النواب لقبة البرلمان الذي شهد نقاشاً حامي الوطيس، فيما تراجعت الحكومة بعد جلستين فقط وأمرت بتعليق عمل البرلمان لأجل غير مسمى بحجة وجود إصابات بالفيروس المستجد بين النواب والعاملين داخل البرلمان، كما أن قرار الحكومة جاء مباشرة بعد بيان أصدره القصر الوطني جاء فيه أن السلطان عبد الله، لم يكن على علم بما صرح به وزير القانون والبرلمان أمام الجلسة البرلمانية الخاصة، وأنه قد تم إلغاء كافة القوانين التي اتخذتها الحكومة خلال حالة الطوارئ. وأعرب الملك عن استيائه من تصريح الوزير، وأكد أنه لم يوافق على هذا القرار الذي "ضلل" نواب البرلمان.
كان البيان الملكي القشة التي قسمت ظهر البعير، وأشعلت سيلاً من الانتقادات ضد حكومة محيي الدين وتوالت المطالبات والاتهامات الصريحة بالاستقالة وخيانة الملك وتضليل البرلمان. فيما تزعم هذه المطالبات زعيم المعارضة أنور إبراهيم ورئيس حزب "أومنو" المنسحب من الحكومة أحمد زاهد حميدي إضافة إلى رؤساء وزراء سابقين هم مهاتير محمد ونجيب رزاق. ورداً على ذلك، خرج نائب رئيس الوزراء المعين حديثاً والمنتمي لحزب أومنو ليؤكد امتلاك الحكومة الأغلبية واستمرارها في أداء عملها.
ويرى مراقبون أن محاولات رئيس الوزراء الحالي لاستمالة أكبر حزب ماليزي قبيل انعقاد البرلمان من خلال تعديل وزاري لصالح "أومنو" لم يلق رضى من أمانة الحزب وقادته، فقد أعلن رئيس حزب "أومنو" تراجعه مجدداً عن دعم الحكومة وانسحابه من التحالف الحاكم في محاولة لشق صف الحزب الأكبر داخل التحالف الحاكم لشغله بمشاكله الداخلية وصرفه عن محاولة إسقاط الحكومة.
مستقبل الأزمة السياسية
وسط تزايد المطالبات باستقالة رئيس الوزراء لاتهامه بإهانة الأوامر الملكية، وكذلك استقالة أحد وزراء "أومنو" من مجلس الوزراء تنفيذاً لموقف الحزب من سحب الدعم، تظل حكومة محيي الدين ياسين في وضع يسمح لها بالاستمرار على المدى القصير. وأكدت الحكومة التزامها الدستور وأن سلطة إلغاء قوانين الطوارئ لم تعد من اختصاص الملك بعد الأول من أغسطس (آب). ويدعم ذلك عدم امتلاك ملك ماليزيا سلطة إقالة الحكومة حتى في الوقت الذي أعرب فيه علانية عن غضبه من تصرف وزير القانون. وبالتالي فإن سلطة إسقاط الحكومة تقع على عاتق البرلمان عبر إجراء تصويت سحب الثقة، الذي فشلت محاولة انعقاده الأسبوع الماضي، وبحسب تصريح لرئيس الوزراء، فإن أقرب موعد لعقد جلسات البرلمان سيكون في سبتمبر المقبل إذا لم يجد جديد من قبل الحكومة.
فيما يؤكد متخصصون دستوريون أن سحب دعم نواب "أومنو" يجب أن يكون مدعوماً بخطابات مكتوبة وموقعة وموثقة من قبل النواب (إعلانات قانونية) موجهة إلى الملك.
ويبقى السؤال الأهم، هل تستطيع ماليزيا إجراء انتخابات عامة مبكرة في حال سقوط حكومة محيي الدين؟ وذلك بالتزامن مع إعلان ولاية ساراواك استعدادها لإجراء انتخابات الولاية خلال ستين يوماً فور انتهاء الطوارئ مطلع الشهر الحالي.
لكن مشهد انتخابات ولاية صباح التي أجريت خلال الجائحة مخلفة أرقاماً قياسية للإصابات بالفيروس المستجد لا يزال يلوح في الأفق. فماليزيا تمر حالياً بأزمة صحية لم تشهدها من قبل تسبب فيها وباء كوفيد-19، مع تجاوز عدد إصابات كورونا حاجز المليون وانتشار متحور "دلتا" الخطير، الأمر الذي يجعل فكرة الانتخابات المبكرة أكثر ضبابية إلى حين الخروج من الأزمة الوبائية التي تعصف بالأرخبيل.