سؤال: ما هو اليوم الذي يمكننا القول إنه شهد واحدة من أكبر الثورات الاجتماعية والتقنية بل حتى الثقافية في تاريخ البشرية المعاصر؟
الجواب: لا شك أنه يوم السابع والعشرين من يناير (كانون الثاني) 1926، وكان ذلك حين تقدم الاسكوتلندي جون بيرد من المعهد الملكي في لندن، باختراعه الجديد والمدهش، الاختراع الذي من المؤكد أن أحداً لم يتوقع له في ذلك اليوم اللندني البارد، أن يسيطر على حياة الناس وعقولهم بشكل تدريجي وحاسم قبل وفادة السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين أي خلال الثلاثة أرباع القرن التي كانت متبقية من القرن الفائت. كان الأمر في البداية مجرد لعبة غريبة تثير فضول العلماء البريطانيين وتجعلهم يتساءلون، وسط كل وقارهم: هل يمكن النظر إلى هذا الجهاز الطريف والصغير بعين الجدية؟ هل سيكون له مستقبل؟
جواب لم يكن في الحسبان
والحقيقة أن العقود التالية ستحمل الجواب غير المتوقع لذلك السؤال الذي بدا حائراً أول الأمر. والحقيقة أن البشرية، كل البشرية كانت هي من أسهم وبشكل استثنائي، في ذلك التطور الذي أوصل التلفزيون إلى ما هو عليه الآن، حتى وإن كان من الصعب القول إن الذين اهتموا به في سنواته الأولى كانوا كثرة وحملوا آمالاً كبيرة بصدده. فمن ناحية مبدئية، كان الجهاز الذي تقدم به بيرد يشبه السينما، بمعنى أنه يعرض أمام متفرجيه صوراً متحركة، لكن مبدأه لم يكن يقوم على عرض الشريط السينمائي، بل على عرض يتم عن طريق أنبوب ينتهي بشاشة صغيرة الحجم. ويومها جرى الحديث للمرة الأولى عن "الأنبوب الذي يستخدم الأشعة الكاتودية"، هذه الكلمة التي كانت في منتهى الغرابة يومها لكنها صارت اليوم جزءاً من الحياة اليومية. صحيح أن ذلك الجهاز، لم يعرض يومها صورة لها نقاء وجمال الصورة السينمائية. فالصورة التي يعرضها "التلفزيون" (وهو الاسم الذي أعطي منذ ذلك الحين لهذا الجهاز ويعني الرؤية من على بعد) كانت بحاجة للانتظار سنوات وسنوات قبل أن ترتدي ألوانها وتتضح خطوطها وتحوز على نقائها وبريقها أكثر وأكثر. ومع هذا فإن أعضاء المؤسسة العلمية الملكية قالوا إن الصورة لا بأس بها، وأن الاختراع يبدو لهم جيداً وقابلاً للتطور. ووجد بعضهم أن بالإمكان مقارنته بجهاز الراديو اللاسلكي الذي كان قد مكّن الفرنسي موريس بريفا، قبل ذلك بشهرين تقريباً، من إذاعة أول نشرة أنباء مباشرة على الهواء.
بدلاً من الحياة
لكنهم لم يتنبهوا إلى جانب لم يخطر في بالهم من جوانب إمكانات ذلك الجهاز: الجانب المتعلق بكونه سوف يتطور ليصبح في نهاية المطاف بديلاً من الحياة وعلى المستويات كافة. بل بديلاً من الفنون جميعاً ولا سيما من دور العرض السينمائية والإذاعات اللاسلكية والصحافة والمدارس وتطول هذه اللائحة إلى ما لا نهاية، بل إلى السؤال الأكثر معاصرة: هل يمكننا الآن أن نتخيل الحياة في ظل وباء كورونا وانعزال البشر في بيوتهم لو لم يكن التلفزيون قد بات ذلك الجزء الأساسي من الحياة؟ قد يبدو هذا السؤال الأخير غريباً لكن له مشروعيته بالتأكيد، بل للجواب كلمة جديدة واحدة لم تكن لتخطر في بال بيرد ومعاصريه: كلمة "نتفليكس". فـ"نتفليكس" تتجاوز كونها محطة تلفزيونية لتحلّ التلفزيون محل كل الأدوات المعروفة سابقاً لتوصيل الفنون والإبداعات إلى متلقيها. فإذا كانت شاشة التلفزة قد تمكنت خلال ما لا يزيد على قرن من الزمن من الحلول كأداة لنشر كل أنواع الإبداعات قاطبة في أوساط جمهور عريض لم يعد في حاجة إلى الانتقال من المنازل، فإن "نتفليكس" بات كفيلاً باعتصار كل إمكانات هذا الركون إلى البيت بديلاً عن كل مجتمع حتى وهو يقبل بالشروط السينمائية وغير السينمائية التي كانت تجعل من الصالات مكاناً للاجتماع من حول أعمال فنية. وما يمكن إضافته هنا هو أن التلفزيون لم يعد وحده بل صار له إخوة تتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وعشرات الابتكارات والوسائط والألعاب التي تستكمل تلك المهمة التي صارت للتلفزيون مع مرور الزمن ولم يكن بيرد ليتوقعها بالتأكيد.
ثقافة وفيرة ولكن...
باختصار صارت تلك الشاشة المنزلية أحادية الجمهور ما يسميه المغني الفرنسي التروبادور جان جاك غولمان، "الحياة بالواسطة" بحسب العنوان الموفق لواحدة من أعمق أغانيه. والمسألة انطلاقاً من هنا تدور من حول كون هذا الواقع لخير الإنسان أو لإلحاق الضرر به؟ ففي نهاية الأمر لا يمكن الناس أن يشكوا اليوم من نقصان الثقافة وافتقارهم إلى التفاعل مع الإبداع تفاعلاً يميزهم عن بقية الكائنات. ولكن من ناحية أخرى هل ثمة فائدة حقيقية ترتجى من فنون وإبداعات تصل من طريق الشاشات المنزلية في عالم بات كل فرد فيه جزيرة قائمة في ذاتها؟ فالمسألة الأساسية هنا ليس تلقي الفنون التي قد لا يحرمنا منها التلفزيون، ولكن تلقيها من أجل أي هدف؟ للاستمتاع بها وحسب بعدما أمضى الإنسان مئات السنين يعيش الفنون عيشاً جماعياً؟ إن الشاشة التي اخترعها بيرد ذات يوم قبل نحو قرن حلت محل أشياء كثيرة بالتأكيد ومن المؤكد أن الإنسان سيظل قادراً على الإبداع على رغم العزلة البشرية المستشرية. ولكن سيظل يتساءل لماذا أبدع ولمن أبدع؟
بيرد الذي لا يلام
ومهما يكن من أمر لا يمكننا لوم بيرد على هذا "المصير" هو المولود في عام 1888 والذي درس الإلكترونيات في الكلية الملكية في غلاسكو وكان الرائد الأول للتلفزيون، ولم يدرك في ذلك اليوم الذي يبدو لنا الآن بعيداً جداً، أنه إنما وضع اللبنات الأولى لولادة ذلك الجهاز العجيب الذي سيصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس، خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. وفي اعتقادنا، أن ما من ثورة في زمننا هذا تضاهي الثورة التي يمكننا أن نطلق عليها اسم "ثورة التلفزيون". فهذا الاختراع، إن درسنا مساره ومسار علاقته بالناس بشكل جيد، سيتبدى لنا بوصـفه العامل الذي أحدث الانقلاب الأكبر في الحياة الاجتماعية، حين نراه وقد حل في البيوت، كل البيوت، محل كل شيء: السياسة والأدب، الفن والفلسفة. إنه بعد كل شيء، الجهاز الأكثر "ديمقراطية" منذ اخترعت اثينا الديمقراطية، لأنه قادر على أن يجمع في بوتقة واحدة كل الطبقات والأجناس وهي تتفرج وفي وقت واحد على الأمور نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ديمقراطية غريبة
لكن ديمقراطيته ديمقراطية غريبة، لأنه إذ يعطي متفرجه وهم الاعتقاد بأنه يشارك في كل نشاطات الحياة العامة، ويدخل البيوت ليراقب ما يحدث فيها ويعيش حياة شخصيات المسلسل الذي يراه، ويكون من أوائل المطلعـين على الأحداث حال حدوثها، ويغوص كما يحلو له في مجاهل الفنون والآداب، فإنه في الوقت نفسه قادر على إخفاء أن كل ما يعطيه لمتفرجه من تميز إنما هو وهم من الأوهام، وأنه إذ يحل محل الحياة نفسها بالنسبة ليومية المتفرج، وإذ يشركه في تفاصيل الأحداث، فإنه يتركه في النهاية وحيداً على مقعده، في غرفته القاحلة، أمام شيء ليس في نهاية الأمر سوى جهاز من خشب ولادن وزجاج، غير متنبه إلى أن كل الديمقراطية والفنون والحريات، وكل ضروب المشاركة التي عاشها طوال ساعات البث، لم تكن سوى وهم وسيلته صورة تزداد جمالاً ووضوحاً مع الأيام، وتزداد سيطرة على أذهان المتفرجين، فصاروا يعيشون هذه الحياة بالواسطة.
أبعد من السينما بكثير
ترى هل يكون من المغالاة بعد ذلك الحديث عن تدمير الحياة الاجتماعية، وانحراف الثقافة عن غايتها التنويرية والتحريضية كوعاء للوعي البشري، وتحولها أداة للسيطرة على البشر، وكأن التلفزيون صار هو الأمير الجديد الذي يتحكم في مصائر الناس؟ قطعاً هذه أمور لم تكن خاطرة في بال جون بيرد حين قدم اختراعه أمام المعهد الملكي. فهو، في أحسن الأحوال، كان يعتقد أن جهازه سينال نجاحاً يقترب من نجاح السينما. فهل علينا أن نقول إن التلفزيون عرف، ومنذ عقود من السنين، كيف يتجاوز حتى السينما ويخضعها؟