ملخص
الدعم التركي لقادة دمشق الجدد جعل إيران تتخذ من أنقرة منافساً قوياً لها، مما يحول سوريا إلى ساحة للتنافس بين تركيا وإيران التي تريد استرداد نفوذها، وربما تحاول التوافق مع الأكراد لمناوئة المصالح التركية وجعل سوريا مساحة غير مستقرة للأتراك.
لم يقتصر سقوط النظام السوري على مجرد فقد إيران الدولة الوحيدة التي تعتبر حليفتها ضمن ما يسمى محور المقاومة القائم بالأساس على ميليشيات في المنطقة صنعت بعضها وبعضها الآخر كان موجوداً بالفعل، ويبدو أن تأثيرات سقوط بشار الأسد ستتعدى كثيراً فقد الحليف لتخوف طهران من انعكاسات ذلك على الداخل ثم حتمية البحث عن إستراتيجية إقليمية تعوض بها هذا العنصر الذى بسببه يثار التساؤل حول ضعف إيران الحالي.
وربما تمتد التأثيرات لتصل إلى مرحلة جديدة يرجح أن تشهد تنافساً إقليمياً وربما توترات بين إيران ومنافسها التاريخي تركيا، فهذه المعضلة التي تعيشها طهران الآن يجسدها التخبط أخيراً في تصريحات المسؤولين الإيرانيين بدءاً من المرشد ومعه وزير الخارجية عباس عراقجي، في مقابل ما طرحه مستشار الرئيس للشؤون الإستراتيجية جواد ظريف وسماه "مبادرة المودة لدول غرب آسيا"، ويمكن إجمال التخوف الإيراني من تداعيات تأثير سقوط بشار الأسد داخلياً وخارجياً حتى الوقت الراهن بما يلى:
أولاً: التخوف الداخلى، فعلى رغم أن إيران انتقدت نظام الأسد بعد سقوطه واعتبرته المسؤول عما حدث على مدى 14 عاماً وأنه لم يستمع لنصائح مسؤوليها للتقرب من شعبه، وأن الوضع الاقتصادي المتأزم أفقده دعم الجيش الذى شاع فيه الفساد نظراً إلى ضعف الرواتب، ليفقد دعم قاعدته العلوية، وهذه الحجج التي يسوقها المسؤولون الإيرانيون وتتناولها التحليلات ووسائل الإعلام الإيرانية مفادها أن طهران كانت تنصح الأسد بضرورة إجراء إصلاحات سياسية وتفعيل لجنة تعديل الدستور والحوار الآمن مع المعارضة وأن الأسد لم يقبل بالتغيير، لافتة إلى وصول نحو 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر، فقد كان الاقتصاد السوري في أسوأ حالاته، وكانت البنية التحتية السورية تحت هجمات إسرائيلية مستمرة.
ويذكر أن تلك الانتقادات لبشار الأسد هي ذاتها التي تعانيها إيران، سواء من حيث نسب الفقر أو الوضع المتأزم اقتصادياً أو الانفصال بين الشعب والنظام القائم، والذي يعمقه حال السخط الممتدة منذ أعوام وبالتالي تآكل نسب المواطنين المؤيدين للنظام وضعف شرعيته التي تبرزها نسب المشاركة في الانتخابات المتتالية، مما قد ينذر بأن النظام الإيراني في حال ضعف ولن يجد قاعدة شعبية تحميه، وربما الفارق الوحيد بين نظام طهران والأسد هو استمرار قبضة إيران على المؤسسات الأمنية والعسكرية والتي تضمن لها الأمن داخلياً.
ثانياً: تخبط الدبلوماسية الإيرانية تجاه سوريا الجديدة، فبعد سقوط الأسد كان بيان الخارجية الإيرانية كلاسيكياً تقليدياً يؤكد دعم خيارات الشعب السوري ووحدة أراضيه وينأى بنفسه عن الأسد، كما أكد عراقجي التواصل مع الإدارة الجديدة، ولكن أخيراً خرجت تصريحات من المرشد الإيرانى تدعو الشباب السورى إلى "الوقوف بكل قوة وإصرار لمواجهة من صمم هذا الانفلات الأمني ومن نفذه"، قائلاً "نتوقع أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى ظهور مجموعة من الشرفاء الأقوياء لأنه ليس لدى الشباب السوري ما يخسره، فمدارسهم وجامعاتهم وبيوتهم وشوارعهم غير آمنة".
وخلال مؤتمر لممثلي المرشد الإيراني في المؤسسات العسكرية دعا عراقجي إلى تعاون الجهاز الدبلوماسي مع الميدان، والمقصود هنا تحرك الدبلوماسية إلى جانب التحرك العسكرى القائم على دعم الميليشيات في المنطقة وتفعيل الوجه العسكري للخارجية الإيرانية، وبالإشارة إلى سوريا فقد قال إنه "من الباكر الحكم الآن، فهناك كثير من العوامل المؤثرة التي ستحدد مستقبل هذا البلد، مضيفاً "في رأيي أنه من السابق لأوانه إصدار حكم، سواء بالنسبة إلينا أو لأولئك الذين يعتقدون أن هناك انتصارات قد تحققت، فالتطورات المستقبلية ستكون كثيرة".
وقد فُهم من التصريحات تلك أن إيران بصدد التحرك في سوريا على نحو يخلق فوضى عبر تحريك خلايا نائمة أو تشكيل ميليشيات جديدة طائفية أو من بقايا الأجهزة الأمنية السورية، لذا فقد رد قادة الإدارة الجديدة في سوريا على نحو يحذر إيران من محاولة إحداث فوضى في سوريا، وانتقد أحمد الشرع الدور الذي لعبته إيران في سوريا على مدى الأعوام الماضية، وحذر وزير الخارجية السوري المعين حديثاً أسعد حسن الشيباني إيران من بثّ الفوضى في بلاده، وقال في منشور عبر منصة "إكس" إنه "يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وسلامته، ونحذرهم من بث الفوضى في سوريا ونحملهم كذلك تداعيات التصريحات الأخيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد عكست تلك التصريحات التوترات بين طهران والإدارة السورية الجديدة، وبدأت التصريحات التي تنفي وجود اتصالات بين الطرفين وأنه من غير المنتظر قريباً فتح السفارة الإيرانية في سوريا، فقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي إن طهران ليست على اتصال مباشر مع الحكام الجدد في سوريا، لكنها مستمرة في تواصلها المسبق مع بعض الفصائل المعارضة المختلفة في سوريا.
وبالتوازى مع تلك التوترات التي خرجت للسطح منذ أيام خرج جواد ظريف بمقالة في الـ "إيكونيميست" يتحدث فيها عن مبادرة إقليمية تسمى "مودة"، وتدعو جميع الدول الإسلامية المؤثرة في غرب آسيا، مثل البحرين ومصر وإيران والعراق والأردن والكويت ولبنان وعُمان وقطر والسعودية، والحكومة المستقبلية في سوريا وتركيا والإمارات واليمن إلى المشاركة في مفاوضات شاملة، كما يمكن لممثلي الأمم المتحدة أن يكون لهم دور في هذه العملية، ووفقاً لظريف فإن "مبادرة مودة" تشمل بناء شراكات تعزز التعايش السلمي والتكامل الاقتصادي التجاري والبحري وتسوية الخلافات الإقليمية، لتأتي المبادرة بالتزامن مع دعوة عراقجي إلى تفعيل الميدان.
ويعتبر هذا المسار دعوة من أهم دبلوماسيي إيران، مما يعكس الخطاب المزدوج من طهران التي اعتادت أن توجه خطابين أحدهما تصعيدي والآخر تعاوني منفتح، والذ ي كذلك يعكس تخوفاً إيرانياً من انعزال إقليمي أكثر يفقد إيران أي فرص للحضور في سوريا حيث لها كثير من المصالح الإستراتيجية والاقتصادية، ولذلك فهي تريد البحث عن صيغة تمنحها مقعداً على المائدة السورية ويمكّنها من المطالبة بتلك المصالح مستقبلاً، أي محاولة إيجاد أساس للوجود الإيراني والمنافع المحتملة في سوريا.
ثالثا: التنافس الإيراني - التركي المرتقب في سوريا، إذ يبدو أن سوريا لم تكن فقط ساحة الصراع الإيراني - الإسرائيلي بل ستشهد مستقبلاً التنافس أو الخلافات الإيرانية - التركية ومحاولات بسط النفوذ، فبعد أسبوعين من سقوط حكومة بشار الأسد كانت هناك تصريحات تركية ضمنية تنتقد سلوك إيران في سوريا، ولم تخف الحكومة التركية أنها الداعم الرئيس لجماعة تحرير الشام، ولذلك فهي حساسة لاستقرار ونجاح سوريا خلال قيادة القادة الجدد لدمشق.
وتعتبر إيران أن تركيا تسعى إلى مد نفوذها في العالم الإسلامي عبر استغلال علاقتها بـ "هيئة تحرير الشام" وقيادتها نحو نوع من الإسلام الوسطي المعتدل، وأن هدف الأتراك نقل وتعليم فكر "حزب العدالة والتنمية" إلى تلك الجماعات الإسلامية، ودعمهم اقتصادياً حيث يتمحور فكر "العدالة والتنمية" حول موضوع التنمية الاقتصادية، ومن متطلبات تحقيق ذلك عدم الإصرار على فرض الشريعة على غير المسلمين أو المسلمين العلمانيين، والقبول بمستوى من التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والتعددية والتسامح في مجال العلاقات الخارجية، بما في ذلك العلاقات الطبيعية مع الدول الغربية، مما جعل قادة هيئة تحرير الشام، وبخاصة أحمد الشرع، بعد سيطرتهم على سوريا خلافاً للتوقعات والتنبؤات، فقد كان ظهورهم في خطاباتهم مثل قيادات حزب العدالة والتنمية إلى حد كبير، أي أن تركيا تتوقع من "تحرير الشام" أن تتبع النموذج الإسلامي في تركيا وتحوّل سوريا إلى دولة إسلامية لكن معتدلة، وبسبب الدعم التركي لقادة سوريا الجدد فقد اعتبرت إيران أنقرة منافسا قوياً لها استبدل مكانتها ويسعى إلى فرض نفوذه، مما سيجعل سوريا ساحة للتنافس بين تركيا وإيران التي تريد استرداد نفوذها، وربما تحاول التوافق مع الأكراد في سوريا لمناوئة المصالح التركية وجعل سوريا مساحة غير مستقرة للأتراك.