يخطئ من يظن أن المانغو مجرد فاكهة استوائية أو صيفية ذات رائحة نفاذة. قد تكون كذلك في دول العالم أجمع، بما فيها موطنها الأصلي الهند. لكنها في مصر قيمة ومعنى وعشق وسمعة ونزوات صيفية معروفة للجميع.
البعض يسمّي عملية أكلها "غزوة"، والبعض الآخر لا يتعامل معها إلا خلف الأبواب المغلقة، وفي جنح الليل حين تحلو الخلوة، وينجو آكلو "المانجة" بأنفسهم من أعين المنتقدين وتعليقات الممتعضين.
وبحسب العشاق ومحترفي الالتهام، فإن أكل "المانجة" وآداب المائدة لا يتوافقان، وإن توافقا فإن المتعة تكون منتقصة والشهوة قد بُتِرت. ويظن الهواة والمستجدون أن ما يعني الآكل في ثمرة المانغو هو اللحم الواقع حول البذرة المستطيلة في منتصفها، لكن اختصاصيي الالتهام والذويقة المحترفين يؤكدون أن نحت البذرة بالأسنان لا يقل متعة، إن لم تفُقها، عن أكل لحم الثمرة.
المانغو ومصر الصيفية
ولأن ثمرة المانغو ومصر الصيفية وجهان لعملة واحدة، ولأن السنوات القليلة الماضية والتوسع في زراعتها حولتها من فاكهة غالية الثمن مقصورة على موائد الأثرياء وإلى حد ما أبناء الطبقات المتوسطة إلى فاكهة مئة مليون مصري، فإن الأنباء المتواترة عن "العفن الهبابي الأسود" وتأثر المحصول هذا العام، دفع الملايين إلى البحث والتقصي أملاً في أن يكون إنذاراً كاذباً وانتظاراً لمعشوقتهم المتفردة علها تزين موائدهم الصيفية كعادتها كل صيف.
الصيف هذا العام قائظ، درجات الحرارة المرتفعة، التي تعد الأعلى خلال السنوات الخمس الماضية، بحسب الهيئة العامة للأرصاد الجوية، ألقت بتأثيرها الوخيم على المحصول المنتظر. درجات الحرارة الأعلى من معدلاتها الطبيعية بين ثلاث وأربع درجات مئوية، مع وصول الدرجات إلى أقصاها في النصف الأول من أغسطس (آب) الحالي كسرت قلوب المصريين، ومعهم آخرون كانوا يزورون البلاد صيفاً، ويدرجون "عدد 4 كراتين مانغو" على رأس قائمة التسوق قبل العودة لبلادهم.
تغير المناخ
بلاد كثيرة تأثرت وما زالت بتغير المناخ الدائرة رحاه منذ سنوات طويلة، وقد اعتاد المصريون أن يمروا مرور الكرام على أحاديث تغير المناخ والاحتباس الحراري والغازات الدفيئة والاقتصاد منخفض الكربون، لكنها قلما تستوقف الغالبية أو تعرف طريقها إلى أولويات القاعدة العريضة في النقاشات والسجالات الشعبية. فالجميع، باستثناءات قليلة، يعتبرها "مشكلة آخرين لا تعنينا في شيء".
لكن، حين تطاول التغير المناخي وتجرأت الغازات الدفيئة، ولم يجد الاقتصاد مرتفع الكربون حرجاً في أن يلحق الضرر بالثمرة العزيزة على قلوب الملايين، تحول "تغير المناخ" إلى حديث الساعة جنباً إلى جنب مع الرغيف المدعم والثانوية العامة وسد النهضة.
نوستالجيا "المانجة"
الحديث المعبأ بنوستالجيا "المانجة" والحنين إلى الماضي القريب، وتحديداً الصيف الماضي وقت كان المحصول ملء السمع والبصر والشم في كل ركن بين صاحب محل الفاكهة "عم سليمان" وأحد أكبر زبائنه المهندس الزراعي أحمد فتحي تحول إلى حوار مجتمعي شارك فيه جميع الحاضرين. ولأن "عم سليمان" ركن في بداية الأمر إلى منظومة "قدر الله وما شاء فعل"، و"عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" تعليلاً لنقص المعروض من المانغو وارتفاع أسعاره ومحدودية أنواعه مقارنة بالعام الماضي، فقد وجد فتحي نفسه مضطراً لمواجهته بالحقيقة الغائبة. "في شهر فبراير (شباط) الماضي ظهرت بوادر مرض العفن الهبابي على أوراق أشجار المانغو، ولم تُعالج بالشكل الأمثل، كما لم تتخذ الخطوات الوقائية المثلى قبلها، التي تصدر بها كل عام قائمة كاملة من قبل معهد بحوث البساتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه القائمة تشمل الفحص المستمر للأشجار وطلاء جذوعها بنوع معين من البلاستيك لحمايتها من حرارة الجو والالتزام بالتركيزات المدونة على عبوات رش المبيدات للوقاية من الحشرات والعفن مع الفحص المستمر للنباتات الجديدة للتأكد من خلوها من الحشرات والأمراض والعفن".
وأضاف فتحي أنه إضافة إلى درجات الحرارة المرتفعة وعوامل تغير المناخ من تذبذبات في درجات الحرارة وارتفاعها وانخفاضها أكثر من المعدلات الطبيعية، فإنني أرجح أن تقصيراً ما على الأرجح حدث، سواء من قبل المزارعين أو في نوعية المبيدات التي استُخدمت. وأشار إلى أنه كان على وزارة الزراعة أن تتخذ إجراءات استثنائية منذ الشتاء الماضي لتجنب تأثر المحصول سلباً.
وبين سلبية التأثير وإيجابية رد الفعل الشعبي تجاه تأثر المحصول العزيز على قلب كل مصري ومصرية موجات بحث عاتية على أثير الإنترنت. "العفن الهبابي" تصدر "الترند" غير مرة بحثاً وتغريداً وتدويناً عن هذا العفن الذي ضرب مزاج المصريين.
العفن الهبابي
ويتضح أن العفن الهبابي من أكبر مسببات فساد ثمرة المانغو. فهو مرض مصنف باعتباره "خطيراً" يصيب أشجار المانغو. يغزو أوراقها وأفرعها وثمارها وشماريخها الزهرية في وقت مبكر. وتتسبب فيه فطريات "مترممة" (تعيش على بقايا الكائنات الحية نباتية أو حيوانية)، حيث تترمم على الإفرازات السكرية التي تفرزها نوعية حشرات ثاقبة وماصة تتغذى على أوراق أشجار المانغو فيكسوها السواد، وذلك بسبب تكون طبقة سوداء لزجة على سطحها. ويؤدي هذا السواد إلى أضرار إضافية، إذ يحول دون التمثيل الضوئي للأشجار.
وحين يتوقف التمثيل الضوئي أو يضعف، تفقد الأشجار المصابة قدرتها على إنتاج ثمار صحية. ولأنها إصابات تتعلق بعرض وليس مرضاً يستغرق وقتاً طويلاً ولا يظهر بين يوم وليلة، فإن أصابع اتهام عدة تشير إلى الإهمال أو التجاهل أو الجهل، وجميعها في قفص الاتهام الشعبي.
شعبياً، يعرف المصريون أن "المانجة" تأتيهم من مدينة الإسماعيلية (إحدى مدن القناة الواقعة على مسافة نحو 120 كيلومتراً من القاهرة. لكن ما لا يعلمه كثيرون هو أن محافظتي قنا وأسوان (جنوب) عامرتان بحقول المانغو، كذلك الذي يخرج ثماره في يوليو (تموز) من كل عام، وإن بقيت الإسماعيلية على رأس المدن المشهورة بزراعة المانغو.
محبوبة المصريين
ما يزيد على 120 ألف فدان مزروعة بمحبوبة المصريين تعرضت لخسائر ما زالت غالبية المصريين تحاول إقناع نفسها أن "المانجة" غداً لناظرها قريب، وأنهم ذات صباح سيتوجهون إلى أسواق الفاكهة، ليجدوا محبوبتهم الصيفية وقد تبوأت مكانتها. لكن تقرير اللجنة العلمية المكلفة من وزير الزراعة الصادر قبل أيام لمعرفة ما جرى هذا الموسم في الإسماعيلية أشار إلى أن العوامل الجوية والمناخية المتقلبة ألقت بظلال وخيمة على المحصول. وجاء في التقرير أن الارتفاع والانخفاض الشديدين والمفاجئين في درجات الحرارة تسببا في تلف جزء كبير من المحصول وانخفاض الإنتاج.
المحافظة التي كان يبلغ متوسط إنتاجها في كل صيف نحو 350 ألف طن "تأثرت جداً"! وكيل مديرية الزراعة في الإسماعيلية السيد خليل مبارك قال في تصريحات صحافية، إن التوقعات تشير إلى خسائر فادحة في المحصول بنسبة تقترب من 60 في المئة.
هذه الخسارة لها شقان: الأول اقتصادي، حيث آلاف المزارعين ومئات الملاك يصرخون نظراً إلى تضررهم اقتصادياً، والثاني حزمة من الاشتياق والصدمة واللوعة أصابت قاعدة "الفانز" المليونية لـ"المانجة".
الأول تدور رحاه ممثلة في مناشدات للمسؤولين، وعلى رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، التدخل مادياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث الديون والشيكات المحررة والأجور المؤجلة إلخ. أما الثاني، فآخذ في التشظي رغم محاولات التخفي.
محاولات عديدة تُبذل لإخفاء حجم الضرر الذي لحق بمحصول المانغو. فبعد تقارير وأخبار صحافية متواترة قبل نحو شهر من موسم المانغو الذي "انضرب" (تأثر سلباً) بسبب طرح الثمار ثم اصفرارها وسقوطها فجأة، تحوّلت دفة التقارير إلى تأكيدات على أن الموسم لم يبدأ بعد، وأن المعشوقة في طريقها إلى الأسواق والبطون، وأنه لا داعي لتعجل المانغو واختلاق مواضع للقلق والهلع.
مخزون "أم سميرة" الاستراتيجي
لكن هلع المزارعين والملاك الذين يرسلون مناشدات للمسؤولين على مدار الساعة، يقابله قلق العشاق المشوب بالغضب. فقرة تلفزيونية في برنامج يومي استضافت طبيباً يتحدث عن أضرار تناول المانغو بكثرة أدت إلى غضب شديد بين المشاهدين. ووصل الأمر إلى درجة إرسال رسائل إلكترونية وأخرى نصية قصيرة تتهم المعد والمذيع والطبيب إما بالتغيب عن الواقع أو محاولة تغييب الواقع.
تقول أم سميرة (58 عاماً) التي اعتادت تخزين عشرات الكيلوغرامات من المانغو كل عام لتفاجئ أسرتها بكوب عصير مانغو فرش في عز الشتاء أو كعكة مزينة بشرائح المانغو العويس في غير موسمها "مخزوني الاستراتيجي أصبح في خطر. على مدار 40 عاماً وأنا أخزن المانغو في المبرد. ومن قبلي أمي وقبها جدتي. وقد عرفت أن المحصول هذا العام تأثر كثيراً، ولا يتوقع أن تُطرح كميات كبيرة كتلك التي طرحت العام الماضي في الأسواق، ثم يأتي برنامج (سخيف) ليخبرنا عن أضرار التهام المانجة غير الموجودة أصلاً. حتى الكنافة بالمانجة في رمضان ضاعت".
كنافة بالمانغو
ضياع الكنافة بالمانغو يشغل كثيرين. وللكنافة بالمانغو قصة ابتكار ونجاح وانتشار وكسر للثوابت الخاصة بكلا المكونين العزيزين على قلب كل مصري أصيل: الكنافة والمانجة. قرون طويلة والكنافة لا تعرف شريكاً. البعض يقول إن معاوية بن أبي سفيان هو أول من ابتكر وأكل الكنافة. آخرون يرجحون إما نسبُها إلى عصر سلميان بن عبد الملك الأموي (الخليفة الأموي السابع) أو عصر المماليك أو العصر الفاطمي. وطيلة القرون الماضية والكنافة تؤكل بالسكر، ثم أضيفت مكسرات، وفي عصور حديثة الكريمة والقشدة.
والمانغو منذ ظهرت قبل نحو خمسة آلاف عام في المنطقة الواقعة بين شرق الهند وجنوب الصين ثمرة فاكهة يجري التهامها على حالها. حتى الشعوب الآسيوية حين ابتكرت، خللتها أو جعلت منها "صوصاً" يضاف إلى مأكولاتها.
لكن اختلاط الكنافة بالمانغو قبل نحو عقدين نقل كليهما في مصر إلى خانة عشق جديدة، لا سيما في رمضان، إذ نجحت الكنافة بالمانغو الملغمة بالكريمة والقشدة في أن تكون معلماً من معالم الشهر.
كرم الشهر يرمق محصول المانغو المتقلص هذا العام بعين ملأها الحزن وقلب فطره الوجد، ومعه الآلاف من صناع الحلوى البائسين الذين ينتظرون أغسطس (آب) من كل عام لتدشين مهرجانات المانغو: غاتوه بالمانغو، بسبوسة بالمانغو، آيس كريم بالمانغو، كرواسون بالمانغو، كريب بالمانغو، ومانغو بالمانغو.
الأمر ليس بسيطاً
وإذا كان الأمر يبدو بسيطاً أو تافهاً أو مضحكاً، فهو ليس كذلك. عضو مجلس النواب أيمن محسب تقدم بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير الزراعة واستصلاح الأراضي السيد القصير بسبب "تراجع" محصول المانغو في الإسماعيلية، لا سيما الأراضي المزروعة في مركز القنطرة شرق التي تتجاوز مساحتها 50 ألف فدان ورغم ذلك انخفض إنتاجها هذا العام لما يزيد على 95 في المئة، "وهو ما يمثل كارثة حقيقية يجب الوقوف على أسبابها" على حد قول النائب.
ورفع النائب من حدة الخطورة، وقال إن "أشجار المانغو مهددة بالاختفاء بسبب العفن الهبابي وانتشار الأدوية المهربة والمبيدات الحشرية غير المسجلة ما ألحق أضراراً فادحة بالمزارعين والملاك".
يشار إلى أن إجمالي صادرات المانغو بلغت خلال موسم 2019 - 2020 نحو 39.653 طن بقيمة نحو 31 مليون دولار أميركي. وكانت الآمال معقودة على موسم تصدير أكثر ازدهاراً في 2020 - 2021، لكن العفن الهبابي وشبهة الرش الفاسد والإهمال أتت بما لا تشتهي سفن الأمنيات.
وعلى الرغم من مرور شهر على طلب الإحاطة، فإن تفاصيل أزمة المانغو ومعالمها وملامحها ما زال يكتنفها كثير من الغموض.
انتظار فك الغموض
وبينما ينتظر المصريون فك هذا الغموض، لا يتوانون عن التردد على "الفكهاني"، في أول الشارع، مرة وربما مرتين يومياً لعل تكون الغمة قد انزاحت و"المانجة" عادت. وعلى الرغم من أن المعشوقة لم تختف كلية، لكنها تتعزز على المحبين، وتتدلل على المشتاقين. ارتفعت أسعارها بنحو النصف مقارنة بالعام الماضي. وبحسب تصريحات صحافية لسكرتير شعبة الخضروات والفاكهة في غرفة القاهرة التجارية جمال علام، فإن ارتفاع أسعار المانغو بنسبة نحو 50 في المئة، حيث تتراوح بين 30 و60 جنيهاً مصرياً للكيلو الواحد (بين دولارين وأربعة دولارات أميركية) يعود إلى تراجع كميات المعروض منها، بسبب ما أصابها من عفن هبابي وغيره.
العويس، والهندي، والزبدية، وكيت، وكنت، وزبدية، والفص، وناعومي، وتيمور، والسكري، وهايدي، وصديقة، ومبروكة، وغيرها قد تكون بعيدة عن العين أو الجيب هذا العام، لكنها بكل تأكيد ليست بعيدة عن القلب.
وحتى تبقى "المانجة" المصرية في القلب والعين والجيب، فإنها تحتاج إضافة إلى مراقبة أسواق المبيدات والتصدي للفساد والمفسدين والتهريب والمهربين، توعية مستمرة للمزارعين ومراقبة لا تنقطع للمحصول على مدار الشهور. لكنها تحتاج أيضاً إلى استشراف لما يحمله المستقبل من عفن هبابي أو غير هبابي، وتقلبات في الطقس وتغيرات في معدلات الغازات الدفيئة، وجميعها يعني حتمية اللجوء إلى العلم والتخطيط والمتابعة.
أحد الحلول المقترحة هو تدشين وحدات إنذار مبكر لمعرفة وتحليل والتخطيط للظاهر المناخية واتخاذ اللازم لتقليص الخسائر وتعظيم الفوائد. وعلى الرغم من أن نصف محصول القمح المصري تضرر العام الماضي بسبب عاصفة "التنين"، فإن اللجوء للعلم والإنذار المبكر لعدم تكرار الخسارة تأجل. وكانت النتيجة خسارة باهظة لمحصول المانغو ومزارعيه وملاك أراضيه، وكسرة قلب فادحة لجموع المصريين من عشاق "المانجة" الملتاعين.
لسان حال الصيف هذا العام في مصر ليس فقط حرارة قائظة، بل "مانجة" ضائعة ونزوات صيفية ممنوعة، إما بأمر العفن الهبابي أو الميزانيات الموجوعة من مضاعفة الأسعار.