قبل أسابيع قليلة تحدثنا في هذه الزاوية عن واحدة من آخر روايات الكاتب البرتغالي الراحل خوسيه ساراماغو "رحلة الفيل"، مشيرين إلى تلك المغامرة المدهشة التي عرفتها جبال الألب ومناطق الجنوب الأوروبي قبل نصف ألفية وكان بطلها فيل هندي أهداه ملك البرتغال إلى أرشيدوق النمسا واستدعى الأمر نقله عبر تلك المناطق في مغامرة مدهشة.
من استلهم من؟
والحقيقة أننا لا ندري ما إذا كانت تلك الرواية التي صدرت خلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن الجديد هي ما أوحى للكاتب – الرحالة الإيطالي باولو روميتز، كتاباً بديعاً تابع فيه رحلة "فيلية" أخرى عبر نفس المناطق تقريباً، أم أن المصادفة لعبت دورها جاعلة الكتابين ينجزان في وقت واحد تقريباً، حيث إن الكتابين ينطلقان بشكل أو بآخر من رحلة عبر جبال الألب أكثر قدماً بكثير، هي رحلة الغزو التي قام بها القائد القرطاجي هنيبعل متوجهاً إلى روما غازياً ومقاتلاً وفي صحبته ليس فيل واحد بل عشرات الأفيال التي تمكن بواسطتها من إثارة الرعب في قلوب أعدائه الرومانيين. لكن تلك الأفيال لم تكن "سلاح" هنيبعل الوحيد في تلك الغزوة التي حدثت كما يفيدنا التاريخ، قبل التاريخ الميلادي بأكثر من مئتي عام. فقد اصطحب هنيبعل يومها نحو تسعين ألفاً من المقاتلين المشاة وقرابة عشرة آلاف فارس بجيادهم إضافة إلى الأفيال و"راكبيها"، وهو يعرف أن عنصري الضخامة والمفاجأة سيكون من شأنهما أن يذهبا بمعنويات أعدائه قبل أن يهزمهم عملياً. وكان محقاً في اعتقاده ولو إلى حين كما سنرى. أما هنا فلا بد من توضيح ضروري.
ليس كتاباً تاريخياً
فرحلة هنيبعل هذه لا تروى لنا في كتاب روميتز بشكل تاريخي علمي كما تفعل كتب عديدة لم تتوقف عن العودة إلى ذلك التاريخ الذي بدا مهيناً لأوروبا، ولا بشكل روائي يستعير دروب التاريخ القديم كما يفعل ساراماغو في "رحلة الفيل"، بل تُروى من طريق قطعة بديعة من أدب الرحلات. فروميتز قبل كل شيء كاتب اشتهر بكتب يروي فيها رحلاته إلى مناطق متعددة من العالم. وهي غالباً ما تكون نوعاً من استعادة مسيرات تاريخية ومعروفة. وفي هذا السياق نراه يقوم هنا برحلة يتبع فيها خطى الغزوة الهنيبعلية ولكن على ضوء راهنية تاريخية تجعل من كتابه بشكل ما نوعاً من مقارنة بين الماضي والحاضر. فالكتاب وعنوانه "ظل هنيبعل" لا يهتم بتفاصيل الغزو القديم بقدر ما يهتم بتفاصيل الأوضاع الجديدة، الراهنة، التي آلت إليها حال تلك المناطق نفسها التي عبرها هنيبعل وجنوده وجياده وأفياله ذات يوم.
غدر في تركيا
إذاً بدأ روميتز رحلته متسائلاً عما بقي من ظل هنيبعل وذكراه بعد أكثر من ألفيتين في ذاكرة المناطق التي اجتازها، وقد وضع نصب عينيه فرضية أن ذلك القائد القديم الذي بدأت إطلالته التاريخية بكونه فزاعة عابرة ستجتاز التاريخ الأوروبي وتنتهي سرعان ما تحول إلى أسطورة حتى بعد ما هزمه شيبيون "الأفريقي" وبعد ما طورد إلى منفاه في تركيا حيث ما لبث أن انتحر وقد وجد أعداءه يطبقون عليه ليكتشف أن حكايته انتهت ولم يعد أمامه من مهرب يلتجئ إليه. ونعرف أن ذلك الانتحار هو الذي حول هنيبعل إلى أسطورة بعد ما كانت الغزوة المستحيلة قد حولته إلى بطل من كبار أبطال التاريخ. وتلكم هي بالتحديد الدوافع التي جعلت الكاتب الإيطالي المعاصر يتابع تلك الرحلة ليس بحثاً عن هنيبعل وإنما بحثاً عن "ظل" هنيبعل وعما بقي منه في ذاكرة الأماكن التي عبرها يوماً. ومن هنا يبدأ باولو روميتز رحلته من ساردينيا التي يستعير لها لقبها القديم "عطر الشرق" مستعيراً كذلك، ذلك السؤال القديم الذي كان الرومان يطرحونه على أنفسهم: "كم يبلغ وزن رماد هنيبعل؟ ودائماً ما يكون الجواب: "لا شيء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رحلة مكوكية
فالرومان كانوا هم المعنيون أكثر من غيرهم بهنيبعل الذي كاد يحكمهم يوماً. وهذه الحكاية هي تلك التي تلوح في فضاء كتاب روميتز ورحلته هو الذي إذ قرر أن يعود في الزمن أكثر من ألفي عام وجد من الطبيعي له أن يكون ذلك عبر رحلة مكوكية. وهكذا إذ انطلق من منطقة جبلية فرنسية تقع عند الحدود الإيطالية هي "كلابييه" نراه ينتقل فوراً إلى ساردينيا بالنظر إلى أنها كانت المنطلق الحقيقي لرحلة هنيبعل ماراً بمنطقة الرون وتريبيا وصولاً إلى سفوح جبال الألب وما يسميه في الكتاب "جحيم كان"، قبل الوصول إلى مشارف روما حيث يتمكن القائد من الانتصار على "المدينة الخالدة" في ثلاث موقعات خلدها التاريخ، قبل أن يتمكن منه القائد الروماني الشاب ويدفعه إلى التراجع بمن تبقى من جنوده وأفياله وجياده إلى قرطاجة التي جاء منها وبعد ذلك إلى الفرار إلى تركيا خوفاً من ضربة إضافية موجعة. وينهي روميتز كتابه في تركيا متأملاً عند ما يفترض أنه قبر هنيبعل في بيتونيا... راوياً لنا في طريقه كيف أن هنيبعل كان من شأنه أن يعيش هناك ويُنسى لولا أن غدر به مضيفه وكشف أمره ما دفعه إلى الانتحار.
هل يتذكرون؟
والحقيقة أن هذه الوقائع التاريخية، المعروفة في معظمها، لم تكن هي ما برر لروميتز وضعه لهذا الكتاب. فنحن هنا، وكما أشرنا، أمام نص يشتغل جيئة وذهاباً بين الراهن والتاريخ القديم. وهو إذ يسائل ذاكرة الأمكنة، يحاول ليس فقط أن يستعيد ذاكرة ما أو يروي تاريخاً معيناً، بل أن يتأمل كيف تغدو الأماكن شيئاً آخر تماماً حين "ينتهي تاريخها" وقد يبقى ماثلاً لدى الناس أجمعين باستثناء سكانها. ومن هنا نراه يطرح أسئلته على أناس من سكان تلك الأماكن متسائلاً عما إذا كانوا لا يزالون "يتذكرون تلك الفزاعة– البطل– الأسطورة التي عبر صاحبها مدنهم يوماً" ويفاجئه أن مقابل كل شخص يقول ولو متردداً إن في ثنايا ذاكرته حكايات ما، وصلته جداً عن جد وباتت تشكل تراثاً غريباً، ثمة بشر يدهشهم حتى حين يقول لهم الكاتب ما هي غايته متسائلين عما إذا كان هنيبعل قد مر حقاً من هنا!!
بين الماضي وفقدان الذاكرة
ومن الواضح أن هذا الجانب من الكتاب ومن اشتغال روميتز على موضوعه يرتبط بالذاكرة الجماعية أكثر من ارتباطه بأدب الرحلات أو الحفريات التاريخية. ومع ذلك نراه لا يشكل سوى جانب يسير من موضوع الكاتب. أما الجانب الأكثر راهنية فيتعلق بتلك الصفحات والفصول التي ينتقل فيها إلى الحديث المسهب عن الراهن المناطق التي يتناولها، والتي شهدت ذات يوم بعيد عبور حملة هنيبعل. فمنذ ذلك التاريخ السحيق يبدو واضحاً للكاتب أن العولمة بكل متدرجاتها قد مرت من هنا، عمراناً واجتماعاً واقتصاداً، لا سيما في مجال ما يرى أن في مقدوره أن يطلق عليه عنوان "العدوى المنتقلة من الشرق إلى الغرب بدءاً من الحملة الهنيبعلية وصولاً إلى الأزمان الأكثر حداثة ومروراً بغزوات شرقية أخرى لتلك المناطق منذ ما قبل الزمن العثماني إلى هذا الزمن نفسه... وما تلاه بل وصولاً إلى غزوات شرقية راهنة من نوع آخر تماماً". ولا شك أنه كان من شأن الكاتب أن يتحدث عن تدفق "لاجئي الشرق" إلى تلك المناطق نفسها لو أنه أخر تدبيج كتابه سنوات أخرى ليشهد الهاربين عبر البحار من جحيم أوطانهم الشرقية إلى "النعيم الأوروبي" الخادع، لكنه لم يفعل بالطبع وإن كان كتابه قد حمل إرهاصات حول هذه "الحداثة" المقلقة!
مرآة الحداثة وإخفاقاتها
مهما يكن، فمن المؤكد أن النقاد الأوروبيين الذين تحدثوا بإعجاب عن هذا الكتاب "الذي عرف كيف يستخدم التاريخ بأفضل ما يكون" كانوا على حق حين ركزوا على تناوله للزمن الراهن متحدثاً عن لا جدوى الحروب وحتمية العولمة التي تعود بجذورها إلى الأزمان القديمة، وعن العمرنة التي ربما كان أهم ما تفعله محو الذاكرة فيما يبقى على الكتّاب أن يستعيدوا الأساطير جاعلينها مجرد انعكاس شبحي لحداثتنا وإخفاقاتها.