وقفت أميمة الخليل على المسارح في عمر مبكر، وكانت رفيقة مارسيل خليفة في غنائه وحفلاته وجولاته الفنية منذ الثمانينيات من القرن المنصرم. وكم أدهشت الجمهور اللبناني والعربي عندما أدت متفردة أغنية "عصفور طل من الشباك" التي ما برح الناس يرددونها. التزمت تقديم الأغنية الجادة في وقت بحثت مغنيات كثيرات عن أنواع غنائية سهلة، بحثاً عن الشهرة والانتشار. تسعى أميمة إلى تطوير تجربتها الفنية من عمل إلى آخر، من خلال بحثها الدؤوب عن أنماط موسيقية جديدة كما حصل في ألبوم "مطر".
وعلى الرغم من انفصالهما كثنائي، إلا أن تعاونها مع مارسيل خليفة لم يتوقف، فهو وقع بألحانه كل أغاني ألبومها الأخير "صوت" وبقي صديقها المقرب الذي نشأت فنياً على يديه.
أحيت أميمة لخليل قبل أيام حفلة في مدينة صور، اختارت "مع الفن تتجدد الحياة" شعاراً لها، لأن "الناس منهكون ومثقلون بالأعباء" كما تقول، وتضيف، "كلنا عاجزون عن استيعاب ما نعيشه في لبنان، ولا نعرف من أين نبدأ لكي نستعيد أنفسنا. وقد اخترت هذا الشعار لأنني أعرف من خلال تجربتي أن الفن يأخذنا إلى أماكن توسع أفقنا وخيالنا، كما أنه يمدنا بالطاقة لكي نستمر". وعما إذا كانت الظروف التي أشارت إليها، غيرت من تفاعل الناس مع حفلتها، قالت، "من يحضرون حفلاتي يعرفون من يقف على المسرح وماذا يغني لهم، وتفاعلهم معي جميل وكبير وعميق حتى عند تقديمي للأغاني الهادئة التي لا إيقاع فيها. هم يأتون إلي ويستقبلونني بأحاسيسهم، كما هي العادة دائماً بالنسبة لي ولهم".
زواريب ضيقة
ولأن الواقع الغنائي يشير إلى تغير في ذوق الناس الذين يميل معظمهم إلى الموسيقى التي ترفه عنهم نتيجة الضغوط تقول الخليل، "أذواق الناس متنوعة، ولا علاقة لهذا الأمر بالأزمات والحروب. لا يجوز تفريغ الفن من مضمونه لكي يصبح مسلياً، لأنه في الأساس للتسلية ومعه تتجدد الحياة كما أشرت في شعاري. كل أنواع الفنون متاحة، والناس يتابعون ما يفضلون، وبإمكانهم أن يتسلوا بالفن الذي أقدمه أو بالفن الخالي من أي رسالة أو مضمون أو معنى. الفنون كلها للترفيه لكن بمضامين مختلفة، بعضها فارغ ويحاكي الغرائز، وبعضها الآخر غير مجاني، يطرح في الوقت نفسه أسئلة وجودية تخص حياة الفنان وحياة الآخرين".
وعن رأيها في مستوى الكلمة في أعمال المطربين الرائجين شعبياً وتجارياً، تقول، "لست في موقع الحكم. كل فنان يقدم الفن بطريقته، ويختار ما يجده أنه مناسب له، والذي يصل من خلاله إلى الناس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنا لم أسمع الأعمال الرائجة الجديدة والسؤال عنها يدفعني لأن أفعل ذلك بدافع الحشرية".
تعبر الخليل عن موقفها من الفنانات اللواتي كن يقدمن الفن الملتزم، ثم فضلن الأغنية الجماهيرية والتجارية، لأنهن وجدن أنها أكثر إنصافاً لهن على مستوى الشهرة والانتشار، قائلة، "هناك أغنية جماهيرية جميلة وملتزمة وأغنية تجارية جميلة وملتزمة، وهذه التصنيفات تدخلنا في زواريب ضيقة. كل فنان يقدم الفن الذي يتلاءم مع قناعاته، ويجب ألا نلوم أحداً لأن لكل منا آراء واستراتيجية يقدم من خلالها عمله ونفسه، عدا عن أن الفنان يحتاج إلى مورد رزق. وبالنسبة إلي، الفن هو ملاذ وموضوع جدي جداً، ويسهم في بناء الإنسان أكثر من أي شيء آخر، حتى أكثر من السياسة التي لا تصلح للبناء وخصوصاً في لبنان. وعلى هذا الأساس، أنا أبني خياراتي الفنية، ماذا أغني وما هي النصوص التي أغنيها، فالمفترض أن تحترم أعمالي عقول الناس ونشأتهم وتربيتهم وتربية أولادهم، فهي كلها قيم ثابتة ولا تتغير أبداً. أما بالنسبة إلى موضوعيّ الشهرة والانتشار، فهما يعنيان لي إذا كانا مترابطين بفني، فأنا تهمني الشهرة التي أحصل عليها بسبب أغنية أو قماشة صوتي، أو لأن الناس يحبون الكلمة التي أقولها وكأنها تتحدث عنهم، ولكنها لا تهمني لمجرد أن يتعرف علي الناس في الشارع بعد ظهوري في برنامج تلفزيوني أو لسماعهم أغنية عادية مني".
أميمة الخليل التي لعب الرجل دوراً لافتاً في حياتها الفنية، بدءًا بوالدها الذي رافقها في صغرها، مروراً بتبني مارسيل خليفة لها، وحالياً مع زوجها هاني سبليني، تقول، "لطالما كنت محظوظة جداً لوجود هؤلاء الرجال الثلاثة في حياتي. فهم ساندوني، ودفعوا بي إلى الأمام وعرّفوني على أشياء قيمة. لدي إيمان راسخ بأننا ولدنا رجالاً ونساء لكي نساعد بعضنا، فكما ساعدني هؤلاء الرجال فأنا أيضاً كنت مفيدة جداً لهم".
مع مارسيل وما بعده
كيف تقارن الخليل مرحلة ما بعد مارسيل خليفة مع المرحلة التي كانت فيها معه، خصوصاً أن سنة 1994 شهدت نوعاً من الانفصال الفني بينهما؟ تجيب، "أنا لم أنفصل عنه، مع أن البعض يحب أن يرى علاقتنا على هذا الشكل. بالنسبة إلي، شكلت تلك السنة البداية الحقيقية معه، وهي مستمرة حتى اليوم. لا يمكنني أن أنفصل عن نشأتي ومراهقتي وحياتي، ونحن نكمل المسار بأدوات مختلفة. مارسيل كان ولا يزال حاضراً في عملي كما في حياتي الشخصية. المقارنة بين المرحلتين صعبة جداً وفي الأساس يجب ألا تكون موجودة. ولكي نتحدث عن مقارنة حقيقية ومنصفة، يجب أن تقارن عناصر العمل هنا مع عناصر العمل هناك. الفن واسع ومتنوع وغني جداً، خصوصاً مع هاني سبليني وعبودي السعدي وعصام الحاج علي وباسل رجوب وبول سالم. هؤلاء موسيقيون حقيقيون لا يستنسخون عن غيرهم، وكل منهم يعمل بقوة في مجاله. لا تجوز المقارنة، لأن هناك عملاً يحمل عناصر يمكن أن تتلاقى في بعض الومضات مع عمل أخر، لأنهما مختلفان كلياً، من منطلق اختلاف الخلفية الفنية لكل منهما، ولأنه لا يمكن لأي منهما أن يقلد الآخر، أو أن يتمثل فيه. يمكن أن يكون الأكبر مثالاً على مستوى التجربة والسن، ولكنه لا يمكن أن يكون مادة للنسخ".
وعن التوصيف الذي تجد أنه ينطبق على علاقتها الحالية بمارسيل خليفة بعد احتضانه لها لسنوات طويلة، وهل شعرت في مرحلة ما، أنها تحررت من حصرية التعامل معه، توضح، "ما حصل هو تحول طبيعي وتلقائي في الحياة، وعكسه غير طبيعي. بعد فترة عمل طويلة مع الآخر، يحب أن نأخذ مسافة، وأن نعبر عن الأشياء بمفردنا وهذا ما حصل في تجربتي مع مارسيل. حالياً، أنا أعبر عن الأشياء بمفردي ولكن يبقى له رأي فيها، ومن حقه الطبيعي هو أيضاً أن يقدم أعمالاً بعيداً عني. مارسيل احتضنني وآمن بصوتي عندما كنت طفلة صغيرة، ورغب بإعطائي فرصة، وهي كانت استثنائية وهو يشكر عليها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهل توافق أن المرحلة الفنية الأكثر ثراء في مسيرتها كانت مع مارسيل خليفة، ترد، "طالما أنني على قيد الحياة، ولدي النية والطاقة والصوت، فأنا مستمرة في تقديم الفن، على الرغم من المتاعب والظروف الصعبة، سواء مع مارسيل خليفة أو زياد الرحباني أو عاصي الرحباني أو هاني سبليني أو عبودي السعدي أو غيرهم. كل كلمة كتبها شاعر حقيقي ونوتة موسيقية ألفها موسيقي حقيقي تُثري المشهد الفني، وتعد ثروة جديدة تضاف إلى ثروات تحققت مع مارسيل خليفة، وربما تكمل معه. مرحلة الثراء الفني لن تنتهي وسوف نستمر في تحقيق إنجازات في الموسيقى والأغنية، طالما "الدنيا ولاّدة" والإرادة موجودة، وطالما أن هناك أناساً على قيد الحياة ولدينا عطاء ومواهب كبيرة. في السابق، الموارد المادية التي تقدم كانت أكبر، واليوم يعاني العالم كله من شح مادي، ولكنه لن يؤثر على الطاقات التي تحارب باللحم الحي من أجل الحفاظ على تواجدها، لكونها ثروات حقيقية ولا يمكن أن تشح أبداً".
مطر بدر شاكر السياب
أصدرت أميمة الخليل عام 2019 أحدث ألبوماتها "صوت" ويرى البعض أن ألبومها الذي سبقه "مطر" هو الأهم، خصوصاً وأنه كان أكثر تميزاً على مستوى التأليف الموسيقي والأداء والكلمة، لكنها توضح، "الألبوم الثاني أصدرته عام 2014 وهو شكل محطة مهمة في مسيرتي الفنية وفي المكتبة الغنائية الموسيقية العربية، وفيه تعاونت مع عبد الله المصري الذي وقع التأليف السيمفوني، وشاركني فيه رامي خليفة، وسجلته في موسكو مع الأوركسترا السيمفونية. أما القصيدة فهي لبدر شاكر السياب. ومن بعده أنجزت كثيراً من الأغاني المنفردة، كما أمضيت عامين مع كورال الفيحاء، وأجرينا تمارين يومية، بين طرابلس وبيروت ومصر، من أجل ألبوم "صوت" الذي يحمل توقيع مارسيل خليفة لحناً، وإدوار طوريكيان توزيعاً موسيقياً، أما النصوص فهي لمجموعة كبيرة من الأسماء البارزة من بينها جوزف حرب ومروان مخول وكمال حيدر ومحمود درويش ونبيل الباشا وزاهي وهبي وبطرس روحانا وإلياس لحود. الألبومان مهمان جداً بالنسبة إلي، لكن القالب التأليفي في ألبوم "مطر" هو الأول من نوعه في الغناء العربي غير الأوبرالي، وكتب على غلافه إلى جانب العنوان "سوبرانو شرقي"، أي إنه لا يعتمد تقنية الغناء الأوبرالي. وهذه المرة الأولى يتم فيها تقديم هذا النوع من التأليف على قصيدة عربية، وليس على موسيقى من دون كلام. القالب والتأليف في الألبوم غير مسبوقيْن في الغناء العربي، عدا عن أنه شكل نقطة تحول في أدائي الغنائي بإشراف المؤلف عبد الله المصري. "مطر" محطة مهمة جداً، وكذلك صوتي فيه لأنه "أكابيلا"، ويعتمد تقنية الغناء من دون آلات موسيقية، والكورال كان عبارة عن شيء يشبه الآلات الموسيقية من حيث التوزيع".