بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيد، قرارته بإقالة الحكومة وتجميد عمل مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه، بدأت حملة إيقاف لعدد من النواب الذين ارتبطت بهم قضايا فساد أو كان عليهم قضايا منشورة أمام المحاكم واستغلوا الحصانة التي منحها لهم وجودهم تحت قبة البرلمان، للتهرب من المثول أمام المحاكم وتنفيذ الاحكام التي صدرت بحقهم.
كما بدأت وزارة الداخلية تنفيذ قرارات فرض الإقامة الجبرية على عدد من الشخصيات التي تثير أسماؤهم الجدل في المؤسسة الأمنية أو القضائية، وتم فرضها على وزيرين سابقين في خطوة أثارت ردود فعل متباينة حول هذه القرارات.
قانون استثنائي
يعد فرض الإقامة الجبرية على أي مواطن حقاً لوزارة الداخلية في ظل حالة الطوارئ التي تعيشها تونس، وذلك بحسب الأمر عدد 49 لعام 1978، والذي أعطى آنذاك الوزارة حق إيقاف قيادات في الاتحاد العام التونسي للشغل خلال الصدامات الدامية التي شهدتها تونس في 26 يناير (كانون الثاني) 1978 جراء الخلاف مع الوزير الأول الهادي نويرة الذي كان يقود سياسة اقتصادية ليبرالية أغضبت المنظمة العمالية.
قرارات لا تمس حقوق المجتمع
منذ إصدار القرار عام 1978 لجأت الحكومات المتعاقبة في تونس إلى استعمال هذا الأمر في فترات حالة طوارئ أو ما يصفه الدستور التونسي "بالخطر الداهم" ومنذ عام 2015 تم وضع مئات الأشخاص رهن الإقامة الجبرية، سواء بسبب التهديد الإرهابي الذي يشكله هؤلاء، كما تم وضع عدد من الشخصيات التي اعتبرها رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد متورطة في الفساد.
من جهتها، ترى المحامية فادرة النجار أن هذه القرارات التي اتخذها وزير الداخلية تتماشى مع القانون لأنها موجودة منذ سنوات طويلة، وطبقت مرات عدة عند الأزمات.
وأضافت أن هذا القانون استثنائي، وطبق بشكل محدود، والهدف منه ليس التشفي أو الانتقام، بل ضمان عدم حدوث ما يمكن أن يعكر الأمن المجتمعي من قبل أشخاص قد يعتبرون خطيرين بحسب السلطة التقديرية لوزير الداخلية.
وزيران رهن الإقامة الجبرية
وأثار وضع الوزيرين رياض الموخر من حزب "تحيا تونس" وأنور معروف القيادي في حركة النهضة رهن الإقامة الجبرية، ردود فعل متباينة في الساحة السياسية، حيث عبرت الحركة عن رفضها لهذا الإجراء، ووصفته "بغير القانوني"، والذي شمل قضاة أيضاً، موضحة أنها ستتوجه للمحكمة الإدارية للطعن فيه، داعية رئيس الجمهورية لرفع الإجراءات التي تنتهك أحكام الدستور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت الحركة أن القيادي أنور معروف علم بهذا القرار من قبل عناصر أمنية دون مده بنسخة مكتوبة من قرار معلل وصادر عن وزير الداخلية، كما ينص على ذلك القانون.
قضاة في الإقامة الجبرية
وأثار نشر تقرير التفقدية العامة لوزارة العدل، والذي تضمن تجاوزات قام بها عدد من القضاة، وخاصة رئيس محكمة التعقيب، الطيب راشد، المتهم بقضايا فساد، والبشير العكرمي، وكيل النيابة في المحكمة الابتدائية بتونس، والمتهم بالتلاعب في ملفات لها علاقة بقضايا الإرهاب، موجة من الاتهامات بحق عدد من القضاة، ما دفع إلى إصدار قرار بوضعهم في الإقامة الجبرية.
وشمل القرار أيضاً 11 قاضياً، مما أثار حفيظة جمعية القضاة التونسيين التي أصدرت بياناً اعتبر أن إخضاع القاضي إلى الإقامة الجبرية يقتضي إعلام المجلس الأعلى للقضاء مسبقاً بحقيقة ما ينسب إليه من نشاط يمكن أن يشكل خطراً على الأمن والنظام العامين، والحصول على الموافقة المسبقة للمجلس قبل اتخاذ ذلك الإجراء.
وأضاف البيان أن المجلس الأعلى للقضاء هو الجهة المخول لها بالدستور محاسبة القضاة، والبت في المسار التأديبي لهم، محذراً من أن تطبيق إجراءات حالة الطوارئ على القضاة من شأنه أن يشيع أجواء الخوف والترهيب في صفوف كل أعضاء السلطة القضائية، بما يؤثر سلباً على استقلالهم وحيادهم.
هل تنتهك الإقامة الجبرية حقوق الإنسان؟
في المقابل، تعتبر آمنة القلالي، مديرة مكتب منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تونس، الإقامة الجبرية أحد أشكال الاعتقال، وتستلزم ضمانات معينة لاعتبارها قانونية، حتى أثناء حالة الطوارئ.
وإذا استمرت السلطات التونسية بفرض أوامر الإقامة الجبرية في ظل حالة الطوارئ، فعليها أن تفعل ذلك لفترات محدودة، وأن تقدم نسخة كتابية من هذا القرار، وتجعله قابلاً للاستئناف ومراجعة قضائية فعالة.
ويخضع كل تجديد لأوامر الاعتقال هذه لموافقة المحكمة، وعلى سلطات الدولة إثبات ضرورة استمرار التوقيف، آخذة بعين الاعتبار جميع الظروف، بما فيها قدرة المعتقل على إيجاد عمل.
من جهة ثانية، عقبت المحامية فادرة النجار على بيان المنظمة بأن قرار فرض الإقامة الجبرية يتضمن عديداً من الشروط الواجب توفيرها فيما يخص احترام كرامة الإنسان وضمان الحياة الكريمة وتأمين متطلباتها، وهذه القضايا تعتبر أساسية لا يمكن التغاضي عنها تجاه من تم تطبيق القرار بحقهم.
وأوضحت النجار أن هذا القرار لا يتنافى مع حقوق الإنسان، وأن أي دولة تطبق حالة الطوارئ على أراضيها من دون المساس بكرامة الإنسان وحقوقه الكونية.
تعطيل القوانين سبب المشكلة
من جهته، يعتبر المحلل السياسي إبراهيم الوسلاتي أن أحد أسباب عودة الحديث عن هذا الموضوع هو غياب قانون ينظم حالة الطوارئ في تونس، والذي قدمه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي للبرلمان، وتم دفنه في الملفات المنسية بسبب رفض حركة النهضة حينها مناقشته، واليوم تعود لتستنكر هذا الإجراء بعد أن تم إيقاف أحد قياداتها على الرغم من أن رئيس الجمهورية كان قد قرر قبل أيام التمديد في حالة الطوارئ لستة أشهر ولم يعترض أحد على ذلك.
ويرى الوسلاتي أن "النهضة" غيرت موقفها بعد أن وصل تطبيق القوانين للمقربين من رئيسها، وأن القوانين تصبح سيئة عندما تصل إليها. ووصف الوسلاتي الأوضاع اليوم بالفرصة التاريخية للقضاء التونسي ليكون قضاء محايداً ومستقلاً في إطار ما يفرضه القانون، وأن كل المواطنين متساوون أمام القانون، ولا أحد له حصانة بسبب انتمائه السياسي مهما كان، وهناك عشرات القضايا المنشورة أمام المحاكم منذ سنوات، ولم يتم النظر فيها، وهناك ثلاثون عضواً من مجلس النواب مطلوبون للعدالة بتهم مختلفة، ومنها تهم خطيرة، لكنهم تمسكوا بالحصانة للإفلات من العقاب.