حالة غامضة يطلق عليها اسم "متلازمة هافانا" تسببت في حالة ذعر بين العلماء الأميركيين. المتلازمة التي تتضمن عدداً من الأعراض الصحية كان قد كشف عنها لأول مرة بعض الدبلوماسيين العاملين في العاصمة الكوبية هافانا في 2016، يمكنها أن تؤدي إلى الشعور بالدوار (الدوخة) وفقدان السمع والصداع والغثيان وشعور عام "بفقدان التركيز" أو حالة من التشويش mental fog.
ومتلازمة هافانا، التي أثرت على عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية وعائلاتهم وبعض صغار الدبلوماسيين العاديين في كوبا، بدأت في الظهور في أوروبا أيضاً، حيث أبلغ أكثر من 20 دبلوماسياً (أميركياً) عاملاً في العاصمة النمساوية فيينا، أنهم عانوا من تلك الأعراض. النظريات المطروحة عن أسباب حدوث ذلك تتراوح بين تعرضهم لسلاح مؤثرات صوتية تستخدمه دولة غير صديقة (مثل روسيا) وحلفائها، أو انكشاف (تخريب) أدوات تجسس تقنية يستخدمونها، وكانت لها أعراض جانبية غير مقصودة. والواقع أن كثيرين ممن أبلغوا عن هذه الأعراض قالوا إنها تزول فور مغادرتهم فجأة المبنى أو المنطقة التي كانوا يمارسون عملهم فيها عندما ظهرت تلك الأعراض عليهم، ما يعطي وزناً (يرجح) لتلك النظريات.
عادة ما يصاب دبلوماسيون من أمثالي بحالات صداع لأسباب عادية للغاية. فالعمل (المضني) لساعات طويلة (يومياً)، وفي مواضيع تتضمن تفاصيل كثيرة، والضرورات البيروقراطية التي يحتمها العمل مع ممثلين من دول متعددة عبر العالم، وتغير طبيعة العلاقات الخارجية مع الدولة المضيفة كلها تضع ضغوطاً على كثيرين من العاملين في هذه المهنة. أضف إلى ذلك كله أيضاً حياتنا التي نحياها وفق نمط معيشي يسمح ويشجع على تناول كميات كبيرة من المشروبات (الكحولية)، وستجد بعد ذلك سببا وجيهاً لتناول المسكنات من نوع أيبوبروفين ibuprofen.
لكن، إن متلازمة هافانا لا تحتمل الاستخفاف، وأن تكون مادة تطلق النكات من حولها. ففيما تتكاثر حوادثها وتنتشر وتصبح أكثر جدية، يترك كل ذلك الحكومة الأميركية في مأزق، فكيف تتعامل مع تهديد لا يمكنها تحديد مصدره؟
يعتبر الدبلوماسيون أنفسهم عادة بأنهم على مسافة أبعد من النزاعات بسبب تقيدهم بالضوابط التي تحكم وتوجه دفة العلاقات الدبلوماسية (وهنا نقصد معاهدة جنيف والحصانة الدبلوماسية) التي من شأنها دعم ذلك. أما الجواسيس والعملاء السريين فيجنحون خارج هذه القواعد المعتادة، بغض النظر عما إذا طلب منهم ذلك أم لا. وعندما ينكشف أمرهم وهم يقومون بأي عمل من هذا القبيل، يأتي الرد بطرق مختلفة.
فاستخدام القوة ضد دبلوماسيين يمارسون عملهم يعد من أخطر الجرائم، ويمكن اعتبار ذلك عملاً شرعيا من أعمال الحرب. إنه ضرب من الجنون أن تؤذي أو تجرح أو تعيق بأي شكل الدبلوماسي خلال تأديته لعمله، نظراً لأنه عادة ما يعمل في تلك الدولة بهدف تحسين العلاقات وتقليص إمكانية اندلاع نزاع مستقبلي. وهذه النقطة الأخيرة هي تحديداً سبب كون متلازمة هافانا أمراً مخيفاً للغاية.
لطالما وقعت الاعتداءات على البعثات الدبلوماسية والسفارات الأجنبية بالطبع، (خذ ما حدث في بنغازي الليبية والاعتداء على السفارة البريطانية كمثالين وقعا أخيراً)، لكن هذا الجهد السري والمستمر لضرب ما يقوم به الدبلوماسيون أمر جديد ويعد سابقة مقلقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في بهو المدخل المخصص للزوار في مبنى الأمم المتحدة في مدينة نيويورك، تجد بقايا علم أممي كان معلقاً في السابق على صارية في مبنى فندق القناة في بغداد. وبعد الانفجار الذي دمر الفندق، وسلب حياة أحد أهم دبلوماسيينا، سيرجيو فييرا دي ميللو، إضافة إلى إردائه ستة وعشرين آخرين، وجرح عدد كبير أيضاً من الأشخاص، بقي العلم مرفوعاً، مع من بقي (على قيد الحياة) يواصل عمله من أجل السلام. نعم لقد قصفوا، وتلطخوا بالدم، وعانوا من كدمات، لكنهم واصلوا مهامهم، فمن غيرهم قادر على توليها؟
بغض النظر عن المخاطر، كل الدبلوماسيين فخورون جداً بتمثيلهم (مصالح) دولهم. ربما لسنا أبطالاً أولمبيين، لكننا وفي كل يوم نمثل علم الدول التي ننتمي إليها في أرض أجنبية وبراتب وحزمة تعويضات تعد أقل جاذبية مما يعتقده كثيرون. فكل من يظن أننا نقوم بذلك من أجل عائد مادي، أو بسبب المكانة التي ترفعنا إليها الوظيفة، هم للأسف مخطئون. فمرور أكثر من 75 عاماً ونيف من دون حرب عالمية ليس أمراً بهذا السوء.
استخدام موجات المايكروويف، أو أدوات السونار لاستهداف الدبلوماسيين (بحسب الاشتباه القائم) هو عمل منحط ويضرب قلب قدراتنا للتوصل إلى تسويات مشتركة تعود بالنفع على المعمورة جمعاء. التحدي المزدوج (الذي تواجهه البشرية) من جائحة كورونا إلى تسارع التغيرات المناخية كان ليجعل بديهياً أننا بحاجة إلى الدبلوماسيين اليوم أكثر من أي وقت مضى لتحريك عجلة التواصل بين الدول المتنازعة (ومد الجسور بينها).
على قنوات الدردشة الداخلية يناقش الزملاء في الأمم المتحدة المشتبه فيهم المعتادين المسؤولين عن متلازمة هافانا، هذه الدردشات مخضبة بشيء من الكوميديا السوداء، أحد الزملاء رسم دباً يستخدم طنين جهاز مايكروويف على الشخصية الكرتونية غولديلوكس Goldilocks (التي دخلت بيت الدببة) حتى وصول نسبة حرارتها إلى "المستوى المطلوب". للأسف هذا الشخص هو محلل بارع أكثر من إلمامه بفن الكاريكاتير.
وراء هذا المزاح (المرح) مع ذلك، يقبع خوف عميق ومستمر، لماذا لم نعد نترك وشأننا للقيام بمهامنا من دون أن نكون في المرمى وعلامة الهدف مرسومة على ظهورنا؟
*أمين باشا هو اسم مستعار لدبلوماسي مقيم ويعمل مع منظمة الأمم المتحدة في نيويورك
© The Independent