في السيرة الرائعة التي أصدرها عن سلفه الروائي تشارلز ديكنز قبل ثلاثة عقود من الآن واعتبرت واحدة من أفضل السير التي صدرت عن أي كاتب إنجليزي خلال الربع الأخير من القرن العشرين، يروي الكاتب والروائي الإنجليزي بيتر آكرويد كيف أن صاحب "أوراق مستر بيكويك" و"أوليفر تويست" لم يقبل إلا على مضض "إعادة كتابة" ذلك النص الضخم الذي يحمل مذكرات واحد من كبار مهرجي المسرح والسيرك اللندنيين، جوزيف غريمالدي الذي كان قد رحل عن عالمنا قبل اشتغال ديكنز على مذكراته بسنوات قليلة.
في ذلك الحين كان ديكنز لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، لكنه كان دائم الإفلاس رغم نجاح عدد من الكتب التي كان قد أنجزها وصدرت إما في مجلدات مستقلة أو على حلقات في الصحف. ومن هنا كان الإغراء كبيراً حين عرضت عليه دار النشر التي يتعامل معها "تشابمان إند هال" مبلغاً لا بأس به مقابل ذلك العمل أصر هو على أن يزاد إلى 300 جنيه إسترليني آنذاك. لكنه اعتبر الأمر مجرد سخرة ونوعاً من كسب العيش. وهو لامتعاضه يومها، لم يتوان عن المجيء إلى أبيه كي يساعده فيُملي عليه تعديلاته على النص الأصلي فيما يكتب الأب ما يمليه الابن.
تعديلات جذرية
لكن التعديلات جاءت في النهاية كبيرة وعديدة بل جذرية حتى إلى درجة أن الأب التفت ذات لحظة إلى ابنه قائلاً له والدهشة ترتسم في كلامه وعلى أساريره، "لماذا أراك غاضباً يا بني؟ الحقيقة أنك تكتب عن هذا الرجل وكأنك تكتب سيرتك الذاتية. وتتحدث عن طفولته وكأنها طفولتك، وعن معاناته وكأنها معاناتك. من سيقرأ هذا النص بعد أن تفرغ منه سيخيل إليه أن تلك هي سيرتك، حتى ولو كان في إمكاني أنا شخصياً أن أشهد أنها ليست كذلك".
ولا يقول لنا آكرويد ما إذا كان هذا الكلام قد أقنع الروائي الشاب وجعله يرضى عن العمل، لكنه يؤكد لنا أن ديكنز قد تمكن من أن يقلب الحكاية والمذكرات رأساً على عقب ويحول لغة غريمالدي البائسة إلى لغة روائية بالغة الجمال والتعقيد. ففي نهاية الأمر لم يكن الأخير موهوباً في الكتابة بقدر ما كان في الأداء المسرحي، بل هو واحد من عباقرته، لا سيما في مجال التهريج والتمثيل الصامت. ومع ذلك رغم صمته تمكن من أن يدبّج عدة مئات مزدحمة من صفحات بخط يده يروي فيها أشياء كثيرة من حياته التي إن تمعن فيها المرء سيخيل إليه أنها مقتبسة مباشرة من تلك العوالم والأجواء التي نهل منها ديكنز أعظم رواياته. ومن هنا سيبدو لنا أن اختيار الناشر إسناد المهمة إلى ديكنز لم يكن صدفة.
كأنه يصيغ رواية
لكن ديكنز لم ينظر إلى الأمر هذه النظرة في البداية كما رأينا. هو حين شرع في العمل على الكتاب كان في حيرة من أمره: هل يستخدم ضمير الأنا الراوي كما يفعل غريمالدي في أوراقه الخاصة، أم يصيغ الكتاب بضمير الغائب وكأنه يصيغ رواية؟ والحقيقة أن القرار الذي اتخذه في النهاية كان شجاعاً وموفقاً. فقد حول النص كله إلى صيغة الغائب، وبالتالي حول حكاية حياة المهرج المبدع إلى ما يشبه الرواية الحقيقية. وهكذا بتنا أمام رواية ديكنزية متكاملة بالنظر إلى تزاحم العناصر الديكنزية في حياة غريمالدي منذ الطفولة حتى الرحيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجدير بالذكر هنا أن ديكنز لم يشتغل على أوراق غريمالدي الخاصة بل على عدة مراجعات متتالية كان قد أنجزها عدد من كتاب كان الناشر قد تعاقد معهم أول الأمر، لكن أياً منهم لم تخطر في باله تلك الفكرة البسيطة التي توصل إليها ديكنز: تحويل المذكرات إلى رواية مروية عن حياة المهرج. وكان من الواضح أن ذلك العمل كان في حاجة إلى مبدع من طينة ديكنز كي يسير به في خط منطقي كما فعل كاتبنا الكبير.
استلهام روح المذكرات
صحيح أن "مذكرات جوزيف غريمالدي" تحمل اسم المهرج كمؤلف، وهذا منطقي طبعاً، فيما يُكتفى عادة بذكر تشارلز ديكنز كمحرر للكتاب، غير أن القارئ المعتاد على أدب هذا الأخير لا يلبث ومنذ الصفحات الأولى أن يدرك كم يدين الكتاب لديكنز ليس فقط من ناحية اللغة والأسلوب، بل كذلك رسم الشخصيات والأحداث التي تعبر عنها الفصول والصفحات، إلى درجة أن القارئ سيصل إلى استنتاج مفاده ليس فقط أن ديكنز قد وضع كثيراً من ذاته ورؤاه في مذكرات المهرج، بل إن العكس حصل أيضاً: وضع الكثير من روح تلك المذكرات في عدد كبير من كتاباته التالية.
حكاية مزدوجة
ولعل في إمكاننا انطلاقاً من هنا أن نفهم تلك الوقفة والملاحظة التي يرويها آكرويد عن والد ديكنز ولكننا لا نستطيع أن نفهم في المقابل ما تذكره بعض المصادر التاريخية من أن تشارلز ديكنز لم يراجع النص الذي خطه غريمالدي بنفسه ثم طبع تلوا لذلك، وأن الكاتب الشاب لم يشتغل إلا انطلاقاً من ثالث أو رابع إعادة صياغة للنص الأصلي. ومهما يكن من أمر فلا بد أن نذكر هنا أن ديكنز ومن خلال تقدمه في صياغة الـ400 صفحة التي سيستقر عليها الكتاب في النهاية، راح يتفاعل مع الشخصية التي يكتب عنها أكثر وأكثر ويمكننا على أي حال ملاحظة هذا الولع التدريجي، بل حتى التماهي المتصاعد مع المهرج حين نقرأ رواية "أوليفر تويست" التي كتبها ديكنز بعد "مذكرات غريمالدي" مباشرة، حيث لن يفوتنا إدراك وجود مقاربات عديدة بين وصفه لطفولة أوليفر تويست، التي يفترض كثير من النقاد أن فيها كثيراً من طفولة ديكنز نفسه، وبين ما يصفه لنا من طفولة غريمالدي وملامح شخصيته. فالاثنان اعتادا العمل المنهك على الأقل ستة أيام في الأسبوع وأيضاً عاشا عذاباً مضنياً تحت سلطة وعصا أب عنيف جائر. والاثنان يعيشان رعب المهمات غير المنجزة كما يعيشان رعب الفراغ الذي لا يكون فيه مجال للقيام بأي جهد ناهيك عن الرعب الناجم عن التسبب في خيبة أمل للآخرين. وهذه على أي حال واحدة من السمات الأساسية المعروفة في شخص ديكنز نفسه وسماته بحسب آكرويد الذي جعلها واحدة من محاور وصفه لسلوك الكاتب.
ابتسامة المهرج لإخفاء الدموع
أما بالنسبة إلى غريمالدي وسلوكه والجهود التي طبعت حياته في كبره، الذي تشغل "سيرته الذاتية" الجزء الأهم والأخير من كتاب ديكنز، فلا بد من التذكير بأنه كان ذا شهرة في لندن عند العقود الأولى من القرن التاسع عشر، تفوق شهرة ديكنز. فهو كان وكما ذكرنا أعلاه سيد المسارح والاستعراضات الضاحكة رغم المآسي التي طبعت حياته، وجعلت تلك الحياة مزيجاً مريعاً ومدهشاً من السعادة العابرة والتعاسة المتواصلة، التي تمثلت في زوجة ماتت صبية فيما كانت تلد طفلهما، وابن شاب خطفته المنية وهو منكب على معاقرة الخمر، وكان غريمالدي يعيش ذلك كله في وقت كانت الجماهير تعبده مبجلة الفنان فيه غير عالمة بشيء عما كان يعانيه في سره ويجعله يمضي لياليه في نحيب ووحدة، لا يجد ترياقاً لهما إلا في سكب كل ما يعتريه حروفاً على الورق ليشكل مجموع تلك الحروف وتلك الأوراق ذلك النص الذي أدهش كثراً كيف استطاع كتابته بروح لا تخلو من مرح وباستفاضة جعلت كثراً وفي مقدمتهم ديكنز نفسه يتساءلون: من أين أتى بالوقت الكافي لكتابة كل ذلك، وهو الذي غالباً ما كان يحدث له أن يقدم عروضه مرتين في الليلة الواحدة على خشبتين مختلفتين فيستمتع اللندنيون بمرآه في ثياب الاستعراض يركض بين مسرح وآخر ومنطقة وأخرى والماكياج يغطي ملامحه. وربما كذلك يخفي دموعه وسط ابتسامة مرسومة بعناية بأحمر الشفاه كما يليق بكل مهرج حقيقي، وعرف تشارلز ديكنز في عام 1938 كيف ينطق باسمه في نص ربما يكون من أجمل نصوصه وأصدقها بعد كل شيء.