لم تكن مسرحية "خيانة" التي كتبها هارولد بنتر عام 1978 آخر مسرحياته هو الذي كان حينها في الـ 48 من عمره إذ إنه سيواصل الكتابة بعدها للمسرح والسينما وصولاً إلى فوزه بجائزة نوبل للآداب بشكل غير متوقع قبل سنوات قليلة من رحيله بنهاية عام 2008.
لكنها تُعتبر نوعاً من الخلاصة المنطقية والوصية الفنية لمبدع لم تخل أعماله من نزعة تجعلها تبدو دائماً كالوصية وثمة بين النقاد والمؤرخين من يعتبر "خيانة" واحداً من أقوى أعمال بنتر، وربما انطلاقاً من عاملين تضافرا هنا معاً، أولاً كون المسرحية وأكثر من أي عمل آخر لبنتر تنطلق في موضوعها من بُعد ذاتي، إذ من الواضح أنها تتحدث عن واحدة من العلاقات الغرامية العديدة التي ارتبط بها الكاتب فعلياً خارج إطار الزوجية وتحديداً مع المذيعة التلفزيونية الإنجليزية جوان باكويل، وهي علاقة دامت سرية طوال سبع سنوات ولم يكشف بنتر عنها إلا في هذه المسرحية تاركاً للمتلقين نوعاً من التكهن، بينما تسير في المقابل بلغتها السردية في تراجع زمني لا شك في أنه يبدو محيراً للمتلقي.
سبع سنوات من الأسرار
فالمسرحية تتابع فصول العلاقة بين بطلها جيري وبطلتها إيما زوجة روبرت أقرب أصدقاء جيري إلى قلبه منطلقة من العام 1977 الذي تتوقف فيه العلاقة رجوعاً حتى عام 1968 الذي يسبق بدء العلاقة بين الاثنين، ومن الواضح أن بنتر استعار هذا الشكل الفردي "المحطم" لمفهوم الزمن من الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي كان يعمل في عام 1972 على اقتباس سينمائي لروايته "البحث عن الزمن الضائع"، وهو اقتباس لم "يؤفلم" وإن كان بنتر سينشر نصه في عام 1978 نفسه الذي ستُعرض فيه المسرحية، والحقيقة أن هذا الاشتغال على الزمن في تراجع بالغ التعقيد أدى إلى نجاح المسرحية حيثما عُرضت حول العالم بدءاً من لندن وصولاً إلى عشرات المدن، ومن بينها نيويورك التي حققت المسرحية فيها نجاحات فاقت أي نجاح كانت قد حققته أي مسرحية أخرى لبنتر.
"خيانة" في الطريق إلى "نوبل"
ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن الفيلم الذي حُقق مقتبس عن المسرحية نفسها في عام 1983 عن سيناريو كتبه بنتر أيضاً كان ناجحاً بدوره، بخاصة أن النقاد كانوا قد بدأوا يتحدثون علناً عن الأصل الواقعي للحكاية وعن علاقتها الشكلية بأسلوب بروست. وهكذا أوصلت "خيانة" وقد توسطت أعماله التي بلغت الـ 60 عملاً إبداعياً هارولد بنتر إلى تلك القمة التي ستقوده بعد سنوات قليلة إلى "نوبل"، وذلك في وقت كان قد أبدع فيه ليس فقط عدداً من أفضل المسرحيات التي كُتبت باللغة الإنجليزية خلال تلك السنوات، بل كذلك سيناريوهات مقتبسة عن أعماله كما عن أعمال كتاب آخرين لأفلام حققها إلى جوزف لوزاي عدد من أبرز مخرجي نهاية القرن الفائت، من دون أن ننسى سيناريوهات عدة أخرى كتبها لكنها لم "تؤفلم" أبداً، فنشرها في كتب حملت تجديداً لافتاً في فن كتابة السيناريو.
هكذا حدث ما نعرفه
هذا التجديد هو من نوع التجديد الذي وسم "خيانة"، حيث تُحكى لنا حكاية العلاقة وانفراطها والأكاذيب التي أحاطت بها والخيانات التي كان لا بد أن تدمرها في مشاهد متعاقبة وحوارات تكشف لنا خلفية ما نعرف في السياق أنه قد حدث بين روبرت وإيما من ناحية، وجيري وإيما من ناحية أخرى، كما تطلعنا الفصول والمشاهد المتراجعة على تدخلات متشابكة وحلقات من العلاقات الأخرى التي أحكم الكاتب هندستها، كاشفاً في طريقه كل ما تعرفه الحياة الغرامية والعلاقات السرية والخيانات الزوجية من تقلبات، بأسلوب يمكننا ملاحظة كيف أنه سيسود السينما في استعارة مباشرة من أساليب كانت "الموجة الجديدة" الفرنسية قد اتبعتها، إن لم تكن هي من ابتكرها في أعمال ولغات سينمائية لا يمكن أن يغيب عنها ذكر مارسيل بروست، لتأتي مساهمة بنتر الجديدة والمفاجئة وكأنها تختم دائرة تشكيلية يمثل بروست وبنتر طرفيها الملتقيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الإطار سيقول بنتر لاحقاً معلقاً على تجديديته في "خيانة" أنه يشعر اليوم بالسرور، لأن فيلمه المقتبس عن بروست لم يتحقق "لو تحقق لما شعرت بالحاجة إلى أن أخوض هذا التجديد الشكلي كبديل عنه كتعويض بالأحرى"، موحياً بهذا أنه إنما كتب "خيانة" في ذلك التسلسل الزمني المعاكس لأن اشتغاله على رواية بروست لم يصل إلى خاتمته السعيدة فكان لا بد من انجاز بديل.
من النهاية إلى البداية
بقي أن نذكر أن المسرحية التي يبلغ زمن عرضها قرابة الساعتين تدور مكانياً بين البندقية في إيطاليا ولندن، حيث ننتقل من حانة لندنية في ربيع عام 1977 حيث يلتقي جيري وإيما للمرة الأولى بعدما افترقا مدة سنتين ليتحدثا عن العلاقة التي جمعتهما خلال السنوات السبع السابقة في شقة سرية، فيكشف كل منهما للآخر خيانة ارتكبها في حقه. وفي مشهد تال يدور في ذات اليوم في بيت جيري يلتقي هذا بروبرت ليتحدثا عن العلاقة نفسها ما يعيدنا إلى عام 1975 وإلى الشقة السرية حيث انتهت علاقة إيما بجيري لننتقل بعد ذلك إلى عام 1974 في مشهد يدور في بيت روبرت وإيما الذين يزورهما جيري، وكانت العلاقة لا تزال قائمة بينه وبين إيما ومن هناك إلى عام 1973 إلى غرفة فندق في تورتشيلو حيث الزوجان روبرت وإيما في إجازة. وهكذا مشهداً بعد مشهد حتى نصل إلى بداية العلاقة وبداية الخيانات في الوقت نفسه، وعلى مدى هذه السنوات والفصول لن نرى على الخشبة سوى الشخصيات المحورية الثلاث، وساق بين الحين والآخر.
الأكثر تأثيراً
حين رحل هارولد بنتر بعد 30 عاماً من كتابته "خيانة" والنجاح الهائل الذي حققه عبرها كان يقترب من الـ 80 من عمره. وهو حين نال جائزة نوبل للآداب سنة 2005 كان مع هذا في عز عطائه، وبات راسخاً أنه صاحب مكانة تضعه "في مقدمة الكتاب الأكثر تأثيراً بين أبناء جيله".
ولئن كان هارولد بنتر عُرف ككاتب مسرحي وسينمائي في المقام الأول، فإنه كان إلى ذلك معروفاً بنشاطاته السياسية التي وضعته دائماً في صف المجابهة خلال معظم الصراعات والقضايا التي عرفها العالم في النصف الثاني من القرن الـ 20 من قضايا صراعات الأجيال إلى مجابهة الحروب الأميركية في فيتنام وغيرها، مروراً بالدفاع عن حق الشعوب التي كانت بلدانها مستعمرة من قبل أمم أوروبية في أن تنال حقوقها من هذه الأمم وقضايا العمال المهاجرين.
وفي هذا السياق لم يكن غريباً على الإطلاق أن يقف بنتر، ومنذ عقود طويلة إلى جانب القضية الفلسطينية، بيد أن اللافت هنا هو أن هارولد بنتر فصل فنياً إلى حد كبير بين فكره ونضاله السياسيين وبين إبداعه كاتباً وممثلاً أيضاً.
حتى الرمق الأخير
فإضافة إلى ما ذكرنا كان هارولد بنتر ممثلاً، بل هو بدأ حياته ممثلاً قبل أن يطلق خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن الـ 20 تجربة حظه في الكتابة، أيامها كان مسرح اللامعقول لا سيما أعمال صامويل بيكيت يشغل الواجهة. ومن هنا كان من الطبيعي لبنتر حين بدأ الكتابة أن يسلك وإن بتنويعات لافتة الدرب الذي كان بيكيت خطها، ولكن مع التزام اجتماعي أكثر وفكاهة أقل، وهكذا ولدت مسرحيات تُعتبر اليوم من كلاسيكيات القرن الـ 20 مثل "حفل عيد الميلاد" (1957) و"العودة إلى الديار" (1964) و"خيانة. وفي معظم الأحيان كان بنتر يتولى إخراج مسرحياته بنفسه، بل التمثيل فيها أحياناً هو الذي كان واحداً من آخر نشاطاته الفنية، وعام 2006 لعب الدور الأول لتقديم تذكاري لمسرحية صامويل بيكيت "آخر شرائط كراب" في "رويال كورت تياتر".