قدّم نبيل عيوش في الدورة الأخيرة من مهرجان "كان" السينمائي فيلمه الأحدث "علّي صوتك" الذي كان منتظراً جداً. هذا أول دخول لهذا المخرج المغربي إلى مسابقة "كان" في إحدى المشاركات النادرة للسينما المغربية ضمن سباق "السعفة الذهبية". كل جديد لهذا الخمسيني الذي سبق أن أخرج سبعة أفلام روائية طويلة للسينما، أثار عبر الماضي سجالاً حاداً في المغرب، وخارجه، سجال كان يدور بين المحافظين والليبراليين، بين العروبيين والفرنكوفونيين، وغيرهم. آخر جدل كان يوم أنجز فيلمه الجريء "الزين اللي فيك" عن عالم الدعارة في مراكش. فيلمه الجديد لا يشذ عن القاعدة، ومن المنتظر أن يكون مادة دسمة للنقاش، فهو عن مجموعة شبان وشابات يمارسون موسيقى الهيب هوب والراب والرقص في سيدي مؤمن، أحد أفقر أحياء الدار البيضاء.
هذا الحي ليس فقط مصدر إلهام عند عيوش الذي صور فيه تحفته "علي زاوا"، و"يا خيل الله"، بل هو أيضاً البقعة التي أسس فيها قبل سبع سنوات مركزاً ثقافياً تقام فيه ورش لتعليم الموسيقى والرقص كنوع من رد حضاري على ظاهرة التطرف الديني التي جرّت الويلات على الحي، وترجمت بالإرهاب الذي رعاه تجار باسم الدين، وزرعوه في قلوب الشباب الذي يعاني الفقر والإقصاء والتهميش. هذا المركز الذي أعطى للشباب فرصة كي ينخرطوا في المجتمع بطريقة إيجابية، اختار عيوش من بين المنتسبين إليه ممثلي فيلمه الجديد، في نوع من تقارب بين الواقع والفن. وعلى رأس هؤلاء المدير الفني للمركز أنس بسبوسي الذي يلعب دور البطولة في "علّي صوتك".
آراء متضاربة
في "كان"، أجريت لقاءً صحافياً مع عيوش ودار بيننا نقاش حول الفيلم وتفاصيله. بداية قلت له، "ما ترويه واقعي إلى حد بعيد. ولكوني أعرف المغرب جيداً، فالقصة لمستني في الصميم. كل هذه السجالات بين الشباب حقيقية، ولكن أكثر ما لفتني إصرارك على القول إن هؤلاء الشباب لا يأتون من كوكب آخر، بل انهم أبناء هذا المجتمع بكل تناقضاته: بعضهم، على الرغم من درجة معينة من التحرر الظاهري الذي هو عليه، ورث أفكار أجداده ولا رغبة لديه في الإزاحة عنها". كان رد عيوش: "أوافقك. كان مهماً عندي ان تتضارب الآراء، لا بل اخترتهم لهذا السبب. لأنهم يمثلون تيارات مختلفة داخل المجتمع المغربي. كانت لديهم آراء متضاربة في شأن السياسة والمجتمع والدين، وغيرها من المواضيع. في كثير من الأحيان، نراهم لا يتفقون. أنا شخصياً، نشأت على فكرة تقديس النقاش والعقل النقدي. لهذا السبب اخترت شباباً ينتمون إلى أفكار مختلفة، شرط أن لا يفسد الخلاف في الود قضية، وأن يحصل هذا كله في إطار من الاحترام المتبادل".
قد يسأل المشاهد وهو يتابع أحداث الفيلم عن متطلبات الشباب في الفيلم. صحيح أن كثيراً منها يأتي على لسانهم في الأغاني، لكن ليس عيباً طرح سؤال كهذا على عيوش كي يأتينا بالخلاصة الواضحة. يقول: "هؤلاء الشباب يحتاجون إلى أن تنصت اليهم السلطات وينصت اليهم المجتمع، وكذلك أن تخصص لهم فضاءات من الحرية. أعتقد أن الأجيال الجديدة في العالم العربي تعيش في واقع مقفل مع القليل جداً من المساحات التي تتيح لها تحرير طاقاتها. وهذا ما يأتي في أي حال على لسان الشباب في الفيلم. هم في أمس الحاجة إلى أن يعلنوا عن هويتهم من دون قيود. هذا هو مطلبهم الأساسي. ثم هناك أيضاً مطالب اجتماعية مثل العثور على عمل والحق في الاستشفاء والعدالة الاجتماعية، ولكن هذه مطالب عامة تخص الشعب بأكمله، وليس هم فقط".
مدرسة الإيجابية
عيوش وبسبوسي أسّسا معاً مركزاً ثقافياً يدور حول ما يعرف بـ"مدرسة الإيجابية"، ولكن ما هي هذه المدرسة تحديداً، وعلامَ تشجع؟ يقول بسوبسي الذي كان حاضراً خلال المقابلة: "برنامجنا مخصص بالكامل لممارسة وتعليم ثقافة الهيب هوب وعناصرها المختلفة من مثل الراب والرقص والغرافيتي. هدفنا الأساسي هو نقل كل المعلمومات التي هم في حاجة إليها عن تاريخ هذه الثقافة، وصولاً إلى تحولها حركة احتجاجية عالمية. كان هذا ضرورياً، لأن الشباب يفتقدون المعلومات المتعلقة بهذا الفن. ويقتصر فهمهم له في الجانب التجاري. عليهم أن يعلموا بأن الهيب هوب فن مطلبي يتيح لنا التعبير عما يحثنا على الثورة في واقعنا اليومي. إنه فن يجعلنا نقول للناس ما لا نستطيع أن نقوله في وجوههم. قبل تأسيس هذا المركز، كان هؤلاء الشباب أناساً عاديين، واليوم أصبحوا فنانين ونماذج لشباب بلادهم، ومع هذا الفيلم أصبحوا فخراً".
هذا الحي عرفه عيوش في أواسط التسعينيات يوم أن صور فيه فيلماً وثائقياً، ثم عاد والتقط فيه مشاهد من "علي زاوا". وقتذاك، كان حياً فقيراً مليئاً بالعشوائيات، فأضحى بحسب عيوش أرضاً خصبة للإسلاميين من كل حدب وصوب. هؤلاء جاؤوا ينشرون فيه عقيدتهم بين الشباب. يروي عيوش قائلاً: "هناك خلايا إرهابية نشأت في هذا الحي. إلا أنه تغير كثيراً منذ ذلك الحين. بعد التفجيرات، تدخلت السلطات المغربية لتغيير التخطيط العمراني الخاص بالحي. تم هدم بعض العشوائيات وتشييد مبانٍ مكانها. وأحياناً ارتكبت السلطات الأخطاء نفسها التي ارتكبت في أوروبا، أي إنها أهملت الجانب المتعلق ببناء صلة عميقة بين الناس والمكان الذي يعيشون فيه. وهذه من الأسباب التي جعلتنا نؤسس هذا المركز الثقافي. كان الحي معزولاً عن بقية أحياء الدار البيضاء، وعندما كنت أصور "يا خيل الله" اكتشفت أن كثيراً من الشباب لم يضعوا أرجلهم في وسط المدينة، وذلك لصعوبة التنقل. فالأمر كان يحتاج إلى الصعود في سيارة أجرة، وهذا مكلف. والعكس صحيح: أي إن الناس الذين يقطنون في وسط المدينة لم يعتادوا على زيارة سيدي مؤمن. ثم، حصل ما كان إيجابياً: تم إنشاء خط تروماي يربط وسط المدينة بسيدي مؤمن، وهذا خلق صلة، وهذه الصلة التي يجب أن تكون على مستويين، ساهمت في إبعاد تجار الدين عن المنطقة. الجدير بالذكر أن المستوى الأول هو طرد من رؤوس الناس فكرة أنهم مواطنون درجة ثانية. والمستوى الثاني هو جسدي محض. هذه الصلة، خلافاً للماضي، أصبحت متوافرة اليوم، وهي غيرت كل شيء".
حي الإبداع والفن
من الصعب لمن شاهد الفيلم ألا يتذكر "يا خيل الله"، أحد أشهر أعمال عيوش الذي عرض في "كان" قبل نحو عقد وهو يحكي عن الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت الدار البيضاء عام 2003... "هل يمكن القول إن الفيلم الجديد هو المقابل الإيجابي له؟"، هذا هو السؤال الذي شغلني خلال المشاهدة، وطرحته على عيوش، فوجدته مؤيداً لإحساسي. قال: "نعم، إنه كذلك تماماً... "يا خيل الله" كان يروي كيف تحول أولاد في العاشرة من العمر إلى قنابل إنسانية لارتكاب عمليات إرهابية في قلب المغرب. أما "علّي صوتك" فيتعقب الجيل الذي ما بعد جيل الإرهاب، حتى إننا نسمع أحدهم يقول للثاني، "أنت لم تكن قد وُلدت بعد عندما وقعت التفجيرات. فـ18 سنة تفصل بين اللحظتين. الانتحاريون كانوا يستعدون للقيام بعملهم في اللحظة التي كان يولد فيها هؤلاء الشباب. الفرق مع هذا الجيل هو أنه يرى الأشياء من منظار إيجابي. هو هنا ليقول "لا، نحن لسنا بؤرة إرهابيين، نحن حي للإبداع والفن"، وهكذا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما كان من الممكن لقاء عيوش من دون الحديث عن الاتهامات التي تُساق ضده في المغرب، فهو بالنسبة لكُثر يغازل الغرب بمواضيع فيها كثير من التنميط، لا بل يصنع الأفلام لجمهور غربي ولمفهوم غربي استشراقي للعالم العربي. موضوع دقيق قد يعرفه المخرج جيداً وقرأ عنه مراراً في الإعلام. هناك عدد من النقاد يعتبرون أن النجاح الذي يحظى به في الغرب وقبوله في المهرجانات الدولية ما هما سوى نتيجة حتمية لانصياعه للرؤية الغربية في تناول بعض الإشكاليات الاجتماعية مثل الإرهاب وقضية المرأة وحرية التعبير، وسواها. طرحت عليه السؤال وأنا أعلم مسبقاً جواب عيوش الذي كان قد رد على الانتقادات ذات مرة ناصحاً المغاربة بزيارة بلدهم في تعليق لئيم وساخر. يقول: "ما قلت لك للتو إنني أحارب فكرة تنميطنا في الغرب يتناقض مع الاتهامات هذه، ثم إنني أحاول في المرتبة الأولى أن أنجز أفلاماً تعجبني. وإذا حدث أن نال أيضاً إعجاب الغرب وإعجاب العالم بأسره فليكن. سأكون سعيداً. هدف أي فيلم هو الانتشار. الأفلام تنال الإعجاب لأنها فيها جانب من العالمية، وهي قادرة على مخاطبة المغربي واللبناني والياباني والأميركي في الوقت ذاته، وفي هذا يكمن جمال السينما. يجب ألا نخاف من هذا، بل على العكس إنه مصدر فخر لي. مثلما هناك أفلام أميركية تتوجه للعالم أجمع، هناك أيضاً أفلام مغربية وعربية قادرة على جذب جمهور غربي".