لا يكاد يخلو أي تصريح أو موقف دولي أو إقليمي في شأن لبنان من دق ناقوس الخطر والتحذير مما ستؤول إليه الأمور في هذا البلد، فمع كل إشراقة شمس يستفيق اللبنانيون على أزمة جديدة ضمن مسلسل الانهيارات المستمرة. ولعل الأزمة الكبرى التي ستزيد مأساة اللبنانيين هي المرتبطة بتوجه المصرف المركزي إلى التوقف نهائياً عن دعم المحروقات والأدوية والسلع الاستهلاكية الأساسية، بعد وصول احتياطاته بالعملات الأجنبية إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990.
وتشير تلك المعلومات إلى أن المصرف المركزي استهلك خلال عام ونصف العام نحو ثمانية مليارات دولار في سياسة الدعم الاجتماعي، ضمنها 6.4 مليار في عام 2020 شملت دعماً بنسبة 85 في المئة، وفق سعر صرف 1500 ليرة للدولار، في دعم الطحين والقمح والمحروقات والأدوية والمستلزمات الطبية، في حين شمل الدعم السلة الغذائية التي أعدتها وزارة الاقتصاد وفق تسعيرة 3900 ليرة للدولار. إلا أن المواطن اللبناني لم يستفد منها سوى بنسبة 30 في المئة، إذ إن التهريب وجشع التجار أفرغا أهداف سياسة الدعم من مضمونها، وجعلا المواطنين يتقاتلون ويصطفون في طوابير على الطرقات للحصول على ما تيسر من تلك المواد.
الدعم المفقود
وفي هذا السياق، يشرح مصدر في مصرف لبنان الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تبديد مليارات الدعم وحرمان المواطنين منها. ويقول "هناك سببان رئيسان، أولهما فلتان الحدود وشراء بعض العصابات المحمية سياسياً البضائع المدعومة بالتواطؤ مع بعض المستوردين، وإعادة تصديرها كوسيلة لتهريب الأموال، والسبب الثاني هو تخزين بعض التجار هذه البضائع في المستودعات وعدم تسليمها للأسواق، وانتظار رفع الدعم عنها قبل بيعها، وبالتالي تحقيق أرباح غير مشروعة".
وسبق لحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أن أصدر بياناً كشف فيه عن أنه باع خلال يوليو (تموز) 2021، 293 مليون دولار وموافقات سابقة بـ415 مليون دولار، أي ما مجموعه 708 ملايين دولار لاستيراد البنزين والمازوت، إضافة إلى 120 مليون دولار لاستيراد الفيول إلى كهرباء لبنان، أي ما مجموعه 828 مليون دولار لاستيراد المحروقات.
وجاء في بيان سلامة، الذي حمل عنوان "مصارحة اللبنانيين"، أنه "على الرغم من الدعم الذي يقدمه مصرف لبنان وإصراره على محاولة حماية الأمن الاجتماعي للبنانيين وتأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم وحراجة الوضع المالي، فلا يزال اللبنانيون يعانون الشح في مادة المازوت، إلى حد فقدانها بالسعر الرسمي المدعوم ونشوء سوق سوداء يُبتز من خلالها اللبنانيون في أبسط حقوقهم منها الكهرباء عبر المولدات".
وأكد المصدر نفسه أن الأرقام التي أصدرها مصرف لبنان تشير بوضوح إلى أنه استُورد أكثر من الكمية التي تحتاج إليها السوق اللبنانية إلا أن الكمية التي سُلمت إلى السوق لا تتجاوز ثلث ما استُورد، الأمر الذي "يكشف كيف استطاعت العصابات تقويض سياسة الدعم وحرمان المواطنين من سبل عيشهم واصطفافهم بالطوابير للحصول على حقوقهم".
عصابات التهريب
وفي السياق، يكشف رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، عن أن مصرف لبنان وصل إلى مستوى الاحتياط الإلزامي الذي يحظر قانون النقد والتسليف التصرف به، وبالتالي عدم قدرة "المركزي" على الاستمرار بسياسة الدعم التي تسببت، برأيه، في تبديد الاحتياطات الأجنبية للبلاد.
وأشار المصدر إلى أن سياسة الدعم القائمة تفتح شهية "العصابات" على تهريب السلع إلى الخارج، باعتبار أن التجار يحققون الأرباح مرتين، موضحاً أنه على سبيل المثال يشتري التاجر السلع بمئة دولار ويبيعها في الأسواق بقيمة 15 دولاراً، على أن يدفع "المركزي" 85 دولاراً، ونتيجة لفارق السعر تهرب "العصابات" السلع نفسها وتبيعها وفق سعرها الأساسي في الخارج، وبالتالي تُضاعف الأرباح.
ويلفت مارديني إلى أن المصرف المركزي وصل إلى الاحتياط الإلزامي، مطالباً بضرورة وقف الدعم وعدم استخدام ما تبقى من أموال للمودعين. ويقول إن "السلع المدعومة اختفت من الأسواق، وفي حال رفع الدعم ستتوافر كل تلك السلع ولكن بأسعارها الحقيقية".
ويعتقد مارديني أن الوسيلة الوحيدة لمنع ارتفاع أسعار السلع بعد رفع الدعم، هو إنشاء "مجلس نقد"، مهمته خفض سعر الدولار وتقوية الليرة اللبنانية، وبالتالي تقوية القدرة الشرائية التي خسرتها نتيجة الدعم، مشدداً على أن هذه الآلية قادرة على تغيير الواقع التضخمي خلال ثلاثين يوماً.
رفع الدعم
وتشير المعلومات إلى توجه حاسم لدى المصرف المركزي بعدم استخدام الاحتياط الإلزامي، الذي قرر المجلس المركزي خفضه من 15 إلى 14 في المئة، أي ما يعادل 13.5 مليار دولار غير قابلة للاستخدام بموجب القوانين المصرفية. بالتالي، فإن التوجه النهائي لرفع الدعم كلياً خلال سبتمبر (أيلول) المقبل، إذ ستصبح الأسعار وفق أسعارها الحقيقية.
ووفق المعلومات فإن المصرف المركزي يدرس إمكانية حصر دعم بعض الأدوية والمستلزمات الطبية والمازوت للمستشفيات وبعض القطاعات الحيوية الأساسية، بقيمة لا تتجاوز المليار دولار في السنة.
لبنان بعد تشيلي
في حين يحمل مدير معهد المشرق للشؤون الاستراتيجية، سامي نادر، سبب الأزمات التي يعيشها اللبنانيون إلى غياب الحوكمة، إذ بات لبنان لهذا السبب غير قادر على إصلاح الوضع الاقتصادي وإدارة المؤسسات العامة أو القيام بالمهام الأساسية المطلوبة منه كالخدمات التي تقدمها الحكومات حول العالم، بدءاً من تخليص معاملة رسمية وصولاً إلى إدارة الأزمات على اختلاف أنواعها.
ويشير نادر إلى أن الدولة اللبنانية تنفق أكثر بكثير من قدرتها الاقتصادية، إذ يقدر الاستيراد خلال السنوات التي سبقت الأزمة بنحو 19 مليار دولار، في وقت لا يتجاوز الناتج القومي للبلاد خمسة مليارات دولار، مشدداً على أن الحلول تبدأ بتقليص النفقات إلى أقل من أربعة مليارات دولار.
وفي وقت سابق، أشار تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أن الأزمة التي يشهدها لبنان هي الثانية من نوعها في العالم بعد الانهيار الذي ضرب دولة تشيلي عام 1926، واحتاجت إلى 16 سنة للتعافي من ذيولها، ولفت التقرير إلى أن "لبنان الذي كان في العقود الماضية مكاناً يسوده الهدوء النسبي في منطقة مضطربة يعيش الآن في ظل انهيار اقتصادي يحدث مرة واحدة في القرن".
كارثة وشيكة
ومن بين حالات القتل اليومية التي تعكس الوضع المتردي، وكان آخرها مقتل ثلاثة أشخاص في طرابلس خلال إشكال على خلفية الحصول على مادة البنزين، برزت أزمة انقطاع الغاز بعد وصول الاحتياطات إلى الخطوط الحمراء، لتضاف إلى أزمات المازوت والبنزين والأدوية التي يشهدها لبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أطلقت المستشفيات صفارات الإنذار، محذرة من كارثة وشيكة تهددها خلال أيام، بسبب نفاد المازوت وانقطاع الكهرباء، إضافة إلى الشح الكبير في أدوية التخدير وجراحة القلب والأمراض المستعصية.
من جانبه، أعلن الأمين العام لاتحاد النقابات السياحية، جان بيروتي، أن انقطاع الخدمات الأساسية من مازوت وكهرباء ومياه، يجتاح القطاع السياحي ويدمر النافذة الوحيدة التي تدخل الأموال الأجنبية إلى البلاد وتحرك ما تبقى من الاقتصاد اللبناني.
وأشار إلى أن العديد من المنشآت السياحية والفنادق تقفل أبوابها وتلغي الحجوزات لديها بسبب عدم قدرتها على توفير أدنى الخدمات لروادها، موضحاً أن هذا الوضع لم يشهده لبنان حتى في ظل الحرب الأهلية. وقال إن هناك من يتعمد إذلال المواطنين وضرب القطاع السياحي وتغيير هوية لبنان التي عرفناها طيلة السنوات الماضية.
احتجاجات يومية
ويشهد لبنان يومياً وقفات احتجاجية رفضاً لاستمرار انقطاع الكهرباء وأزمة التقنين القاسي لأصحاب المولدات الخاصة بسبب ندرة الوقود، وانخفاض مخزون المحروقات والأدوية وحليب الأطفال في الصيدليات واختفاء بعض الأدوية، وتراجع مخزون المستلزمات الطبية في المستشفيات، والمواد الغذائية المدعومة.
وتتخذ مؤسسة كهرباء لبنان إجراءات احترازية منذ أشهر، وتقنن بإنتاج الكهرباء لاستمرار الإنتاج بالحد الأدنى لفترة أطول. وبلغت ساعات انقطاع التيار الكهربائي الذي تؤمنه مؤسسة كهرباء لبنان نحو 22 ساعة يومياً في معظم المناطق اللبنانية. واتخذ أصحاب المولدات الخاصة للكهرباء قراراً بإطفاء مولداتهم في معظم المناطق اللبنانية أكثر من ثماني ساعات في اليوم، بعد نفاد المازوت، وأطفأ بعضهم المولدات بشكل نهائي.