تعاني سوق العمل في أكبر اقتصاد بالعالم مشكلة زيادة الفرص المتوافرة بأعداد أكبر من حجم البطالة في الولايات المتحدة، كما تظهر الأرقام التفصيلية لوزارة العمل الأميركية. ومع عودة النشاط الاقتصادي في سياق التعافي من أزمة وباء فيروس كورونا (كوفيد-19)، تشهد اقتصادات متقدمة مشكلة مماثلة: عدم توافر العاملين بالقدر الكافي لشغل الوظائف المتاحة مع فتح الأعمال والشركات مجدداً بعد عام الوباء.
ففي البيان المصاحب لإعلان أرقام التوظيف في الاقتصاد الأميركي لشهر يوليو (تموز) الماضي، نجد أن عدد الوظائف التي لم يشغلها أحد ارتفع بنحو 590 ألف وظيفة، ما يعني أن هناك في الاقتصاد 10.1 مليون وظيفة خالية بنهاية يونيو (حزيران) الماضي. وهو أعلى معدل للوظائف الشاغرة منذ بدأت سجلات الوظائف التفصيلية عام 2000. ففي يونيو كانت أرقام البطالة الرسمية تشير إلى وجود 9.5 مليون عاطل في الولايات المتحدة.
صحيح أنه، حسب تحليل صحيفة "وول ستريت جورنال" لأرقام سوق العمل في عقدين، هناك وظائف خالية أكثر من عدد العاطلين عن العمل في العامين السابقين على الوباء، إلا أن تلك الزيادة تتسع منذ مايو (أيار) حسب أرقام وزارة العمل الشهرية. فمنذ عام 2000 حتى عام 2018 كان الوضع دائماً في سوق العمل الأميركية أن هناك أعداد عاطلين أكبر من أعداد الوظائف المتاحة. لكن مع مطلع عام 2018 انخفضت معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها في 50 عاماً، ما جعل سوق العمل تشهد توافر وظائف خالية أكثر من عدد العاطلين.
عام الوباء وسوق العمل
جاء تقرير الوظائف لشهر يوليو ليشير إلى إضافة الاقتصاد الأميركي نحو مليون وظيفة (943 ألف وظيفة جديدة)، في أعلى معدل توظيف شهري منذ نحو 11 شهراً. مع ذلك تعاني كثير من الأعمال والشركات عدم توافر عاملين لملء الوظائف الشاغرة، ما جعل كثيرين يقدمون إغراءات للعاملين الجدد من زيادة رواتب وحوافر وضمان التوظيف لمدد طويلة. كما لجأت بعض الأعمال والشركات إلى تخفيف شروط التقدم لشغل الوظائف، بما يسمح لصغار السن قليلي الخبرة بالتقدم لملء الوظائف.
لكن الواضح أن عام الوباء أدى إلى تغيرات هيكلية في سوق العمل، ليس في الولايات المتحدة فحسب بل في أغلب الاقتصادات المتقدمة الأخرى حول العالم. فهناك ملمح آخر يظهر من الأرقام التفصيلية لتقرير وزارة العمل الصادر الاثنين هو عدد من يتركون وظائفهم. فقد ارتفع هذا العدد أيضاً خلال يونيو ليقترب من المستوى القياسي للاستقالات من الوظائف الذي شهدته سوق العمل في أبريل (نيسان) الماضي.
وعلى الرغم من أن أسباب ترك العمل، وأيضاً عدم التقدم إلى الوظائف الشاغرة المتاحة، قد يكون رغبة الشخص في الانتقال من ولاية إلى أخرى أو السعي نحو وظيفة مختلفة، فإن ذلك الفارق الكبير بين عدد الوظائف المتاحة وعدد العاطلين يعني تغيراً جذرياً سببه عام الوباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنقل "وول ستريت جورنال" عن الاقتصادية في موقع التوظيف "زيبريكروتر" قولها، "لدينا عدد أقل من الراغبين في العمل مما كان عليه الوضع قبل وباء كوفيد. على الرغم من أن الأعمال والشركات انتعشت بشدة، وبأسرع من بحث العاطلين عن العمل". ويرجع الاقتصاديون فورة الانتعاش في الأعمال إلى حزم التحفيز والدعم الاقتصادي الهائلة التي قدمتها الحكومات لمساعدة الاقتصاد على مواجهة أزمة وباء كورونا.
تغير نمط العمل
من أهم ملامح عام الوباء التي أدت إلى ذلك الضغط في سوق العمل ما حدث خلال الإغلاق لتفادي انتشار الفيروس من العمل من البيت أو العمل من بعد دون الحاجة إلى الذهاب إلى المقر. وبدأت أعمال وشركات كثيرة، يسمح نشاطها بذلك، بعرض طريقة "العمل المرن"، أي من المكتب أو من المنزل كطريقة للحفاظ على العاملين فيها أو إغراء متقدمين جدد لشغل الوظائف الشاغرة لديها.
ويرى بعض الاقتصاديين والمحللين في شركات التوظيف أن هناك عدم رغبة لدى العاطلين عن العمل في العودة إلى وظائف بدوام كامل، نتيجة دخولهم سوق الاستثمار في أسواق الأسهم والعملات المشفرة. ويقدر البعض أن سوق العمل التي غالباً ما تتشكل من أربعة أو خمسة أجيال تكاد تفقد جيلاً كاملاً لا يريد العمل في وظيفة. وكي يصبح الشخص عاطلاً رسمياً ومسجلاً ضمن أرقام البطالة عليه أن يكون باحثاً عن عمل بالفعل.
في النصف الأول من هذا العام، ارتفع معدل التوظيف في الاقتصاد الأميركي بنسبة 1.7 في المئة، وهي نسبة جيدة في الأحوال العادية التي ينمو فيها الاقتصاد بمعدلات معقولة. لكن الاقتصاد ليس في "أحوال عادية"، ومعدلات النمو الاقتصادي عالية جداً مع التعافي من ركود عام الوباء. فحسب أرقام شركة "آي أتش أس" لتحليل المعلومات وصل النمو الاقتصادي الأميركي إلى نسبة 5.3 في المئة منذ بداية العام حتى مايو الماضي، ويعني ذلك أن الناتج المحلي الإجمالي توسع بشكل هائل، بينما التوظيف في قطاعات الاقتصاد يظل بطيئاً.
يتضح ذلك أيضاً من أرقام معدلات البطالة التي ما زالت تزيد على خمسة في المئة، وإن انخفضت من قرب ستة في المئة بعد أرقام الوظائف لشهر يوليو المعلنة هذا الأسبوع. لكن هناك أعداداً أخرى من الذين لا يعملون لكنهم لا يسجلون ضمن أرقام البطالة لأنهم لا يبحثون عن وظيفة.
في مقابلة مع شبكة "سي أن بي سي" في يونيو، قالت إيرينا نوفوسلسكي، رئيس موقع التوظيف "كارير بيلدر"، إن هناك جيلاً كاملاً ربما أصبح خارج سوق العمل باختياره، وليس نتيجة عدم توافر فرص العمل. وتوضح أن ذلك يرجع في الأغلب إلى أن الملايين تحولوا في عام الوباء إلى محاولة الحصول على دخل من المضاربة في أسواق الأسهم والعملات المشفرة.
يعزز ذلك تقرير حديث يشير إلى أن هناك 21.2 مليون أميركي، أي نسبة 14 في المئة من السكان البالغين الذين يمكن أن يكونوا في سوق العمل، يتداولون الأسهم والمشفرات وغيرها من المشتقات في البورصة. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأبحاث والمسوح في الآونة الأخيرة تشير إلى أن من يقتربون من سن التقاعد يترددون في العودة إلى العمل بعد أزمة وباء كورونا. والأسباب متعددة، إما أنهم يرغبون في التقاعد المبكر واستكمال دخلهم بالاستثمار في السوق، وإما أن رواتب تقاعدهم تكفيهم بالفعل. لذا تقول نوفوسلسكي إن كثيراً من المتقدمين لفرص العمل المتاحة هم ممن يعملون بالفعل ويرغبون في تغيير وظيفتهم، وليسوا من العاطلين تماماً عن العمل.