تغيرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية، فلم تعد تشكل أولوية قصوى لواشنطن بعدما انسحبت من أفغانستان، وخفضت عدد قواتها في العراق، في حين تعهد الرئيس جو بايدن بالتركيز على عدد محدد فقط من الأهداف فيها.
ومع استمرار هذا التقليص، يحذر سياسيون ومحللون وقادة في الكونغرس من أن الصين تستعد كي تحل مكان الولايات المتحدة في جزء من العالم هيمنت عليه واشنطن لفترة طويلة، وأنه يجب على أميركا مواجهة القوة العسكرية للصين ونفوذها الاقتصادي وأيديولوجيتها في كل منعطف، بما في ذلك الشرق الأوسط، خشية أن تصبح القوة العالمية العظمى المهيمنة. لكن فريقاً آخر رأى أن بكين بريئة من هذا السيناريو، وأن تلك مجرد مبالغة تستند إلى أدلة واهية. فما البراهين التي يقدمها كل طرف، وما مدى اقتناع الإدارة الأميركية بها؟
ساحة صراع
في الوقت الذي تنسحب فيه الولايات المتحدة من عدة مواقع في الشرق الأوسط، يعتقد محللون في أوساط السياسة الخارجية الأميركية أن المنطقة ستكون واحدة من أبرز ساحات الصراع حول العالم التي تشتعل فيها المنافسة بين القوى العظمى الرئيسة، وهي الولايات المتحدة والصين. ويستشهد هؤلاء باستثمارات بكين المتنامية بقوة في المنطقة، واتفاقاتها التجارية الثنائية مع القوى الإقليمية، وقاعدتها العسكرية في جيبوتي، وعلاقات الصين الوثيقة مع إيران، كدليل على تهديدات جديدة وخطيرة لأمن الولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثال، اعتبر الباحثان مايكل دوران الخبير في معهد هدسون في واشنطن، وبيتر روف مدير البحوث في مكتب الرئيس السابق جورج دبليو بوش، أن عزيمة الصين الصارمة للتقدم في منطقة الشرق الأوسط تسهم في فقدان الولايات المتحدة سيطرتها على النظام الدولي ككل. ويستندان في ذلك إلى أن الرئيس شي جينبينغ زار الشرق الأوسط عام 2016 لأول مرة بصفته رئيساً، وزار السعودية ومصر وإيران، وأشادت وسائل الإعلام الصينية بالرحلة باعتبارها علامة فارقة، وأصدرت وزارة الخارجية الصينية كتاباً أبيض حول سياستها العربية هو الأول من نوعه، قالت فيه، "إن بكين ستعزز التعاون العسكري مع العرب".
وفي العام التالي 2017، افتتحت الصين أول قاعدة بحرية خارجية لها في جيبوتي على الطرف الجنوبي لمضيق باب المندب، في ما يعد تخلياً عن عقيدتها التقليدية بعدم التدخل، في وقت أصبحت تعتبر المنطقة ذات أهمية حيوية لها أكثر من أي منطقة أخرى، باستثناء منطقة غرب المحيط الهادئ، لأن هدفها هو إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط.
انتهاء التقارب التوافقي
والسبب في ذلك هو مبادرة "الحزام والطريق"، وهو برنامج بقيمة تريليون دولار يستثمر في مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء العالم، بهدف تحويل الموارد إلى الصين وربط العالم بها، بالتالي خلق نطاق اهتمام صيني عالمي غير قابل للانفصال، الأمر الذي يقضي على معتقد استراتيجي أطلق عليه "التقارب التوافقي" منذ عهد الرئيس ريتشارد نيكسون في السبعينيات وحتى باراك أوباما الذي افترض فيه القادة الأميركيون بشكل خاطئ أن العولمة ستحول الصين إلى قوة شيوعية مقبولة ولطيفة.
ويشير الباحثون المؤيدون لفكرة رغبة الصين في الهيمنة العالمية إلى استيائها من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة للدفاع عن الليبرالية والأسواق الحرة والشفافية والديمقراطية وحرية التعبير، وترى أنها خناجر تستهدف استنزاف الحزب الشيوعي الصيني الذي لا يزال يعتمد على هيكل دولة الحزب الواحد وأدوات الحزب الشيوعي التقليدية للقمع والحرب الأيديولوجية والشرطة السرية ونظام عالمي من شبكات التجسس، وآلة دعاية ضخمة لدفع الغايات القومية. لذلك، فإن بكين مصممة على كسر النظام الرأسمالي الليبرالي الذي بناه لها الغرب، في حين يمنحها ثقلها القدرة على النجاح عبر تحقيق استقلال شبه كامل عن الموردين الأجانب، لا سيما في الصناعات عالية التقنية، بهدف التحول إلى دولة رائدة بلا منازع في المجالات التي ستقود النمو الاقتصادي العالمي في العقود المقبلة.
فرص وتهديدات
وفي هذا السياق، يقدم الشرق الأوسط لبكين مزيجاً فريداً من التهديدات والفرص. فمن حيث التهديدات، تأتي نصف واردات النفط الصينية من الخليج العربي، أو تتدفق عبر قناة السويس، كما أن عديداً من الموارد الأخرى التي تغذي الاقتصاد الصيني تشق طريقها إلى الموانئ بعد المرور عبر نقاط اختناق بحرية وممرات وقنوات في الشرق الأوسط، تكون فيه تحت خطر الاعتراض أو منع الوصول من قبل الولايات المتحدة.
أما بالنسبة إلى الفرص، فإضافة إلى السوق الضخمة في الشرق الأوسط والتمويل المتوقع للمشاريع المشتركة في الدول العربية والصين، تحتاج بكين إلى التكنولوجيا العسكرية المتطورة في إسرائيل، التي تفتقر إليها بشدة.
نقطة تقاطع
"جزيرة العالم"، هو الاسم الذي أطلقه هالفورد ماكيندر، مؤسس الاستراتيجية الجيولوجية الحديثة، الذي يرى أن الشرق الأوسط هو نقطة تقاطع القارات الثلاث المتشابكة، أوروبا وأفريقيا وآسيا، وأن القوة التي تهيمن عليها تسيطر على العالم، لأنها شريان الحياة الاقتصادية، ليس للصين فحسب، بل لعديد من دول العالم أيضاً، مشيراً إلى أن هيمنة واشنطن عليها يضمن تفوقها العالمي، لكن إذا انتهى عصر التفوق الأميركي في الشرق الأوسط، فإن ميزان القوى سيتحول بشكل كبير نحو بكين.
ولا تبدو الاستراتيجية الصينية بعيدة عن هذه الرؤية، فهي تشيد ميناءً ضخماً في باكستان على مسافة 500 ميل من الخليج العربي، تقول إنه لأغراض تجارية مدنية لخدمة مبادرة "الحزام والطريق"، لكنه يمكن أن يتحول للأغراض العسكرية في المستقبل، بحيث يكون نقطة انطلاق مع قاعدتها في جيبوتي لمجابهة الوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
وإذا وقعت حرب في غرب المحيط الهادئ، سيكون بإمكان الصين الاستفادة من وجودها العسكري في شمال غربي المحيط الهندي، حيث لن يكون أمام البحرية الأميركية خيار سوى زيادة الدوريات فيه وفي الخليج العربي لردعها عن مهاجمة خطوط الإمداد.
وعلاوة على ذلك، فإن رسالة الصين إلى دول الشرق الأوسط وكذلك اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، هي أن أميركا في تراجع، بينما هي في صعود، وقيادتها العالم أمر لا مفر منه.
أدلة واهية
في المقابل، يرى تيار آخر من الباحثين والمحللين في واشنطن، أن الادعاءات حول اعتزام الصين الهيمنة على الشرق الأوسط تستند إلى أدلة واهية. ذلك أن المفاهيم الأميركية حول دور الصين في المنطقة غالباً ما تتشكل من خلال تجربة واشنطن الخاصة التي رسمتها التحالفات العسكرية والتدخلات المسلحة، أكثر من اعتمادها على السلوك الصيني الفعلي.
ويرى ستيفن كوك، المتخصص في دراسات الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية، وجيمس غرين، الأستاذ في مبادرة جامعة جورج تاون للحوار الصيني الأميركي في القضايا العالمية، أن الدافع وراء وجود بكين المتنامي في المنطقة ليس الرغبة في الهيمنة بقدر رجوعه إلى المخاوف الاقتصادية والسياسة الداخلية، فهي تعتمد على الوقود الأحفوري من المنطقة، وتدفعها رغبة جامحة في عزل نفسها عن الاستياء الإقليمي حول تعاملها مع مسلمي الأويغور.
وتبدو استراتيجية الصين بالنسبة إلى هذا التيار بعيدة كل البعد عن تحديد سماتها وأجندتها النهائية، حيث يمكن أن تدفع كارثة اقتصادية عالمية أو انهيار جيوسياسي الحزب الشيوعي الصيني إلى إعادة النظر في منهجه الحالي، لكن تظل الحقيقة أن بكين حافظت على علاقاتها مع البلدان التي عانت من الصراع الداخلي والخارجي مثل أفغانستان والسودان على مدى العقدين الماضيين، ومن المرجح أن تستمر في إظهار درجة عالية من التسامح مع العنف والتقلبات في الشرق الأوسط.
لكن على الرغم من أن الصين لم تصبح بعد القوة المهيمنة في المنطقة، إلا أن ذلك لو حدث في المستقبل، فلن يكون بسبب أي مخططات استراتيجية كبرى، بقدر ما هو مسؤولية انفصال واشنطن البطيء والثابت عن الشرق الأوسط.
تركيز على الاقتصاد
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كرست بكين كثيراً من الوقت والموارد خلال العقدين الماضيين، لبناء علاقات دبلوماسية وتجارية مع الدول الرئيسة في الشرق الأوسط، كما وازنت علاقاتها مع إيران وإسرائيل والسعودية ودول الخليج، ولا يزال هذا التوازن مكوناً مهماً في استراتيجيتها الإقليمية، ولكن من الخطأ وضع افتراضات حول نهجها تجاه الشرق الأوسط بناءً على سلوكها الصارم في شرق آسيا وأماكن أخرى.
فعلى الرغم من أن قادة الصين قد يسعون إلى التفوق على الولايات المتحدة في عديد من المجالات، إلا أن هناك قليل من الأدلة على أن مثل هذه الجهود تمتد إلى الشرق الأوسط. ويعود ذلك في جزء منه إلى المغامرات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، حيث خلصت النخب السياسية الصينية إلى أن سياسات واشنطن الإقليمية قد استنزفت قوتها ومواردها وطاقتها، وقللت من نفوذها العالمي، ووضعتها على طريق الانحدار النسبي.
دوافع بكين
في الوقت نفسه، فإن الدافع الحقيقي لوجود الصين في الشرق الأوسط، هو التطور الاقتصادي السريع للبلاد، وزيادة وارداتها من نفط الشرق الأوسط عشرة أضعاف.
وتنظر بكين إلى موارد الطاقة في المنطقة على أنها ضرورية للتنمية المستمرة وتأثيرها العالمي، ولهذا تعمل على توسيع العلاقات مع دول المنطقة من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، التي بفضلها أصبحت الآن أكبر مستثمر في المنطقة، وأكبر شريك تجاري مع 11 دولة في الشرق الأوسط، فقد مولت بناء الموانئ والمجمعات الصناعية في مصر وعمان والسعودية والإمارات وجيبوتي، ويعتمد نجاح هذه المبادرة على إبقاء الشرايين التجارية مفتوحة.
ويفسر حادث سفينة الحاويات "إيفر غيفن"، التي عطلت مرور السفن في قناة السويس في مارس (آذار) 2021، والتأثيرات الاقتصادية التي ترتبت عليه، سبب قيام القادة الصينيين بالاهتمام بالشرق الأوسط والممرات المائية فيه. كما تدخل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع طهران لمدة 25 عاماً في هذا السياق، فقد اعتبرت انعكاساً لمصالح الصين الاقتصادية والدبلوماسية، حيث كان لها مصلحة في منع النظام الإيراني من الانهيار تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية الأميركية.
أميركا تراقب
غير أن كون سياسات الصين في الشرق الأوسط تنبع في الغالب من اعتبارات اقتصادية، لا يعني أن واشنطن يجب أن تكون غير مهتمة بالسلوك الصيني في المنطقة، حيث لا تزال القيادة الصينية ملتزمة التحديث العسكري واستعراض القوة، بينما أصبح من الواضح أنها لا تنفر من العمل العسكري. فمنذ تأسيسها عام 1949، خاضت نزاعات مسلحة مع جميع جيرانها تقريباً، بدءاً من الحرب الكورية عام 1950 إلى الاشتباكات الحدودية الأخيرة مع الهند. ولا يزال نشرها قوات عسكرية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي ومضيق تايوان مصدر قلق.
مع ذلك، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن القادة الصينيين سيتبعون القواعد نفسها في الشرق الأوسط، ويرجع ذلك إلى أن تجربة واشنطن على مدى أجيال في جميع أنحاء المنطقة لا تحظى بقبول كبير في بكين، التي تعتبر أن هذا النهج يمكن أن يقوض الإنجازات الاقتصادية والدبلوماسية التي حققتها الصين.
إذا غابت أميركا
من الواضح حسب بعض المحللين أن الولايات المتحدة والصين لديهما مصالح مختلفة في الشرق الأوسط، لكن الاستنتاج القائل بأن بكين تريد أن تحل محل واشنطن في المنطقة لا تدعمه الأدلة المتاحة، بل من غير المرجح أن يسعى الصينيون إلى الصراع وسيفضلون بناء علاقات مع مجموعة من دول المنطقة من أجل ضمان نفاذهم إلى النفط والأسواق.
ومع ذلك سيكون هناك على الأرجح قدر كبير من المناورات لتحقيق النفوذ بين الصين والولايات المتحدة، بينما ستناور القوى الإقليمية بين الجانبين على أمل تجنب الاضطرار إلى الاختيار بينهما، وإن كان قادة الشرق الأوسط سيظلون ميالين لواشنطن، ولهذا ستحتفظ الولايات المتحدة بالهيمنة في هذه المنافسة.
غير أنه إذا بدا الانسحاب الأميركي وكأنه انسحاب كامل من المنطقة، فقد يبدأ القادة في الابتعاد عن واشنطن، وفي هذه الحالة قد ينتهي الأمر بالصين لتصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، على الرغم من افتقارها إلى نية واضحة للقيام بذلك.