دمج المخرج الفلسطيني المقيم في سوريا حسن عويتي في عرضه الجديد "الخدم المتحذلقون" بين نصين لأشهر كتّاب الكوميديا دي لارتي، هما مسرحية "زواج فيغارو" للكاتب الفرنسي بيير بومارشيه (1732-1799) ومسرحية "خادم سيدين" للكاتب الإيطالي كارلو غولودوني (1707-1793). تدور قصة الجزء الأول من هذا العرض في مدينة إشبيلية الإسبانية، وتروي قصة سيد متسلط يدخل في صراع مع خادم من حاشيته يدعى فيغارو. الشاب المقبل على الزواج من الحسناء سوزانا، وبسبب رغبة السيد في تنفيذ العُرف الذي يقتضي أن يعاشر الكونت أي فتاة قبل زواجها بيوم، ينشب صراع بينه وبين خادمه. أما النص الثاني فتدور أحداثه في مدينة فينيسيا الإيطالية، ويحكي قصة تروفالدينو الذي استطاع أن يصبح في وقت واحد خادماً لسيد وسيدة يقع كل منهما في غرام الآخر.
مجموعة من المواقف والمفارقات الكوميدية تستحضرها أحداث العرض، وتنتهي بشخصياتها المرحة إلى نهايات سعيدة يحصل فيها فيغارو على حبيبته من دون أن يمسها الكونت، ويُجبر الكونت على الرضوخ لعصيان خادمه، وتمرده الرمزي على سلطة السادة، فيلغي هؤلاء قانونهم باغتصاب العذراوات قبيل زواجهن. وتنتهي قصة المقطع الثاني من العرض بانتهاء المفاوضات بين تاجر ثري يدعى بانتالوني، كان على وشك أن يزوج ابنته كلاريس إلى سيلفيو نجل الدكتور لومباردي، ليعلن أرلكينو عن وصول الخطيب السابق لكلاريس الذي اعتقد الجميع بأنه ميت، ما يقلب مسار الأحداث ويغيرها لصالح العاشقين الشابين.
حركية الجسد
مبارزات وشقلبات، وأكروبات حركية معقولة جسدها سبعة عشر ممثلاً وممثلة على خشبة المسرح المكشوف (المعهد العالي للفنون المسرحية) مستخدمين أقنعة الكوميديا دي لارتي (صممها أحمد علبي) وبحضور لافت لأزياء اقتربت في مجملها من هيئة الأزياء الأوروبية ذات الطابع الاحتفالي (صممتها سهى حيدر). وقد انسجمت بدورها مع الحقبة التي رافقت صعود نجوم الكوميديا الشعبية الإيطالية، وفرقها الجوالة التي كان لها كبير الأثر في إرساء قواعد فن الضحك في أوروبا بدايةً من أواسط القرن السادس عشر، ومروراً بمسرحيات موليير في البلاطات الملكية وعربات الفرجة المتنقلة في القرن السابع عشر، وصولاً إلى مسرحيات داريو فو (1926-2016) ذات الصبغة النقدية السياسية اللاذعة.
وعكف مخرج العرض على استثمار شرفات وردهات وممرات خلفية للمعهد المسرحي بدمشق، موظفاً إياها في رسم حركة ذات إيقاع لاهث لممثليه الشباب، مستفيداً من إطلاع هؤلاء على ثلاثية بومارشيه، وذلك عبر الإفادة من أجزائها الثلاثة. فهي تبدأ بمسرحيته "حلاق إشبيليا" لتكتمل الأحداث بنص "زواج فيغارو" التي كان الموسيقار النمسوي موتسارت قد لحنها، واستقى منها أهم أعماله بالعنوان نفسه عام 1786، وانتهاءً بنص مسرحية "الأم المذنِبة" خاتمة هذه الثلاثية الساخرة.
الممثل المخرج حسن عويتي الذي يملك خبرة طويلة في مجال التمثيل والإخراج المسرحيين، وضع ممثليه في مواجهة مباشرة مع مسرح النمط، ولكن دون الذهاب نحو الارتجال، بل بالتقيد الحرفي بالنص. ويتطلب هذا النوع من الأداء استجابة فورية لدى الممثلين لتلبية رغبات المتفرجين، وقدرة وموهبة فطرية في التحدث عفوياً مع الجمهور بما تقتضيه الحالة الدرامية. إضافةً الى إتقان فنون القتال والإيماء المسرحيين، ناهيك عن العزف على الآلات الموسيقية. وهذا ما لم يتوفر نسبياً لدى ممثلي العرض، بل كان التركيز على تكيف هؤلاء مع الحركة وفقاً لتغير المواقف والظروف معهم. وذلك دون التحلي بمهارات لاعبي الخفة ومهرجي السيرك، بل بالتعويض عنها ببعض الوقفات والمبالغات الحركية الطريفة، مما ساعد في ردم الفجوة بين مستويات متباينة من أداء الممثلين، وعزز نسخة محلية من ملهاة غاب فيها التركيز على خط ثورة الخدم ضد سادتهم، مقابل الإخلاص لتقديم هذا النوع من المساخر المستوردة.
غراميات مرحة
ونجح "الخدم المتحذلقون" في تقديم صيغة من الهجاء المخفف وسط أجواء من غراميات مرحة، لم تستغن بالمطلق عن إبراز طاقات خاملة لدى الممثل، سواءً على صعيد الأداء الصوتي أو الجسدي، أو حتى على صعيد تظهير مهارات في الليونة واللياقة البدنية. وتابع الجمهور نماذج من عشاق فاشلين، وسادة أشرار مضحكين، وعجائز متصابيين، ونساء ماكرات، ضمن أجواء متفاوتة جعلت اللعبة المسرحية لا تفتر حتى تعود وتضطرم بمبارزات كلامية، ورقصات ذات طابع باروكي، مهدت هي الأُخرى لمناخ من المزاح والطرافة. وورد الحوار باللغة العربية الفصحى، مع الحفاظ على أسماء الشخصيات كما وردت في النص الأصلي، ما أكسبها نوعاً من الرصانة في غير موقع من العرض ذي الطابع الكوميدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مزج العرض السوري بين أنواع مختلفة من كوميديا السلوك والموقف والطباع، متوخياً حذافير تراث مسرح الضحك الإيطالي، ووفق مدرسية صارمة لا يزال المعهد المسرحي في دمشق يحافظ على تقاليد تدريسها لطلابه، وجعلها مادة أساسية لتطوير عمل الممثل وأدواته. وجرت العادة على الاحتفاء بالشخصيات النمطية الأوروبية، في حين ما زالت الأكاديمية السورية تهمل شخصيات نمطية محلية، كان من الممكن تطوير منهج خاص لتدريسها. ومنها شخصيات مثل (غوار الطوشة، وأبو صياح، وأبو كلبشة، وياسينو، وفطوم حيص بيص، وأبو فهمي)، إذ كان من الممكن عبر إنعاش هذه الكاركترات الشعبية، ترسيخ مدرسة ذات طابع محلي سوري، بدلاً من تقليد بيئات غربية، والاستعانة بنصوصها المترجمة، التي عادةً ما تكون مغايرة في تقاليدها وعاداتها وظروفها التاريخية للمجتمعات العربية.
يبقى التحدي الأكبر في هذه النوعية من العروض الخروج على متحفيتها، والتخلي عن الفكرة السائدة التي تقول إن هذه العروض للنخب الأرستقراطية. فحتى في أوروبا كانت وما تزال هذه التجارب تقدم على شكل عروض شعبية وجماهيرية. ولا تزال حتى في إيطاليا (عاصمة الكوميديا دي لارتي) تحظى باهتمام شعبي واسع من قبل الطبقة الوسطى، التي تجد فيها وسيلة ضاربة من وسائل التعبير عن نقمتها على البيروقراطية، وتبرّمها من فساد كبار القوم. اما النسخة السورية فحققها حسن عويتي في مقارنة غير عادلة لاقتصارها على المهتمين والمتخصصين، وجمودها داخل قوالب ملفقة عن الضحك من التسلط والرياء الاجتماعيين، في الوقت الذي تغيب فيه كل المقترحات لابتكار عروض ذات قدرة على التأثير في البنية الاجتماعية السورية التي أنهكتها الحرب، وقضمت طبقتها الوسطى إلى غير رجعة.