بعيداً من محاولة تقويم الإدارة الاقتصادية للرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، وما انتهت إليه في السنوات الست الماضية من نتائج سلبية، يصعب الفصل بين النظرة إلى هذه النتائج والأداء الضعيف لإدارة روحاني، عن الدور السلبي الذي لعبه الفريق السياسي المعارض له في الداخل الإيراني.
ويتمثل الفريق المعارض في التيار المحافظ ومؤسسات النظام التي سيطر عليها القلق من تراخي قبضتها على الدولة والنظام في حال نجاح روحاني وفريقه في استثمار نتائج الاتفاق النووي الذي جرى توقيعه مع السداسية الدولية في 14 يوليو (تموز) 2015، وما فيه من وعود بإمكان عودة الحيوية الاقتصادية والسياسية إلى الحياة الإيرانية بعيداً من الأطر التي ترسمها هذه المؤسسات، لذلك يمكن القول إن هذه أخذت على عاتقها مسؤولية خلق العراقيل أمام طموحات روحاني وفريقه في انتظار العام 2018 عندما التقت مخاوف هذه الجماعات مع رغبات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي أعلن منذ دخوله البيت الأبيض معارضته سياسات سلفه في التعامل مع الملف الإيراني.
وبعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي في أبريل (نيسان) 2018 والعودة إلى سياسة العقوبات الاقتصادية الخانقة في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، لم يعد روحاني وإدارته في معركة مع أطراف داخلية وحسب، بل في مواجهة مع الجبهة الدولية التي كان من المفترض أن تكون الضامنة لهذا الاتفاق أيضاً، وتحولت نتائج سياسات ترمب إلى ورقة تدعم معركة الأطراف الداخلية لإضعاف روحاني وحكومته، وزيادة الجراح في جسد إدارته الاقتصادية ومنعه من استغلال أو توظيف أية فرصة أو نافذة قد تفتحها الجهود الدبلوماسية للخروج من هذه الأزمة، أي أن روحاني في إدارته ملف المفاوضات النووية وأزمة العقوبات الأميركية كان في معركة مع طرفين واضحين، هما الدولة العميقة وتجلياتها في التيار المحافظ في الداخل الإيراني، ومع إدارة ترمب على المستوى الدولي، فهل ستكون الضغوط التي سيواجهها الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي في إدارة ملف المفاوضات والعقوبات الاقتصادية مشابهة لما تعرض له سلفه روحاني، أم أن معركة رئيسي ستكون في ساحات مختلفة عن تلك التي كانت أمام روحاني؟
بعد 18 يونيو (حزيران) 2021 وإعلان فوز رئيسي بانتخابات رئاسة الجمهورية، وضعت معركة الدولة العميقة مع القوى المنافسة في الداخل أوزارها، واستطاعت ومعها النظام توحيد كل مراكز القرار في مؤسسات الدولة وحتى البلديات في قبضتها، وبالتالي بات الطريق أمامها مفتوحاً ومشرّعاً لتنفيذ سياساتها ورؤيتها الاستراتيجية، إلا أن توحيد السلطات ومراكز القرار قد لا يشكل مؤشراً إلى وحدة المصالح في توزيع المغانم بين أقطاب المرحلة الجديدة وقادتها، ولعل الساحة الأبرز لتمظهر الصراع الجديد ستدور حول الجهة التي من المفترض أن تتولى مسؤولية متابعة مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي والحوار مع واشنطن، على العكس من أداء روحاني الذي استطاع منذ البداية انتزاع تفويض من قيادة النظام بنقل ملف التفاوض إلى وزارة الخارجية، وتحت إشرافه مع فريق الوزير محمد جواد ظريف.
المؤشرات إلى إمكان حصول صراع بين مراكز القرار داخل النظام بدأت مع الدعوات العلنية والمباشرة التي تقودها جهات من التيار المحافظ، بضرورة أن يتخذ رئيسي قراراً حاسماً بنقل ملف التفاوض من وزارة الخارجية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، أي إعادة التعامل مع المفاوضات بكونها ذات بعد أمني لا مكان فيه لدبلوماسية الحوار، ولعل خطاب القسم لرئيسي أمام البرلمان يشكل مؤشراً إلى هذا التوجه، عندما أكد ضرورة رفع العقوبات عن إيران من دون أن يشير إلى الآليات التي سيتبعها لتحقيق هذا الهدف.
وفي ظل حال الغموض التي تلف الشخصية التي من الممكن أن تتولى منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وهل سيحتفظ رئيسي بالأمين الحالي الأدميرال علي شمخاني في هذا الموقع، أم أنه سيختار شخصية أخرى، بدأ فريق وزارة الخارجية المفاوض بقيادة عباس عراقجي يتعرض لحملة تشويه واتهام بارتكاب أخطاء استراتيجية سمحت للطرف الأميركي بفرض شروطه على عملية التفاوض، وهو هجوم يتزامن مع دعوات بضرورة إعادة إنتاج الفريق الدبلوماسي والرؤية الاستراتيجية لوزارة الخارجية لتكون متوافقة مع رؤية النظام في المرحلة الجديدة، وما يسمى "المرحلة الثانية للثورة" التي تمثلها السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، المنسجمة والموالية لقيادة النظام ومؤسسات الدولة العميقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه المؤشرات تعيد المخاوف من الإشكال الذي شكل "رصاصة الرحمة" على تجربة ظريف التي تحدث عنها في التسريب الصوتي الشهير مطلع العام الحالي، والمتعلقة بثنائية الميدان والدبلوماسية، وتحول الدبلوماسية الإيرانية خلال السنوات الثماني الماضية إلى منفّذ لما يطلبه الميدان الأمني والعسكري والانتشار الإقليمي لإيران في المنطقة، إذ باتت الدبلوماسية في خدمة الخطط التي كان يرسمها قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، ويطلب من الفريق الدبلوماسي أن يعمل تحت سقفها في مفاوضاته مع دول الجوار والمجتمع الدولي، أي أن الإدارة الدبلوماسية في الحكومة الجديدة بقيادة رئيسي لن يكون فيها دور للهامش الذي حاول ظريف تكريسه لوزارة الخارجية، وستعود لتكون تحت تأثير الجهات الأمنية والعسكرية التي تحاول توظيفها لتعزيز الوجود الإيراني الإقليمي، ولعل المؤشر الواضح إلى ذلك جاء خلال أداء اليمين الدستورية لرئيسي في البرلمان، عندما احتل قادة التنظيمات العسكرية الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية الموالية لإيران الصف الأول بين الضيوف الأجانب المشاركين، في حين وضع ممثل الاتحاد الأوروبي في الصف الثاني أو الثالث خلفهم، إضافة إلى ما جاء في خطاب رئيسي من تأكيد على تمسك النظام بمواقفه في القضايا الإقليمية ودعم هذه الجماعات.
لعل المؤشر الأكثر وضوحاً إلى عودة الدبلوماسية الأمنية والحوار في ظل استعراض القدرات القتالية والنفوذ الإقليمي حملته الطائرات المسيرة والصواريخ البحرية "مجهولة المصدر" التي سيطرت على أجواء مياه بحر عمان والخليج بالتزامن مع انطلاقة عهد رئيسي، وما نتج منها من رفع مستوى التوتر في الإقليم، خصوصاً بين طهران وتل أبيب، وشكلت رسالة إيرانية واضحة بتمسك النظام بدبلوماسية الميدان التي ترسم قواعد الاشتباك والتفاوض خلال المرحلة المقبلة، في مقابل أمن المنطقة واستقرارها والعودة إلى الاتفاق النووي من دون شروط أو نقص.