تقف أوكرانيا حالياً أمام عدة خيارات أحلاها مر. فعلى الرغم من كل محاولاتها الرامية إلى خطب ود بلدان الاتحاد الأوروبي، وكل ما تبذله من أجل الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلى جانب ما قدمته وتقدمه من تنازلات سعياً وراء الفوز بحماية ودعم الولايات المتحدة، تظل هذه الجمهورية السوفياتية السابقة وحيدة أمام مشاكلها مع رفاق الأمس، ومنهم "الشقيقة" الكبرى روسيا، وحليفتها بيلاروس التي أعلنت القطيعة مع أوكرانيا في أعقاب تأييدها المعارضة البيلاروسية، وموقفها من نتائج الانتخابات الرئاسية هناك.
ولعل المتابع للمشهد الأوكراني يمكنه أن يلحظ اهتزاز الصورة، وتذبذب المواقف على ضوء تعثر سياسات كييف التي لم تستطع بعد الحصول على الدعم الحاسم الذي يمكن أن يساعدها في أي من القضايا المحورية التي تصادفها منذ "نجاح" ثورتها الملونة في فبراير (شباط) 2014، في الإطاحة بالرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي كان محسوباً على موسكو. ولم تسفر كل المحاولات التي بذلتها بلدان الاتحاد الأوروبي ومعها الولايات المتحدة عن حلول تُذكر بشأن حلحلة مشاكلها مع جارتها الكبرى، وفي مقدمها قضية استعادة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في مارس (آذار) 2014 بموجب نتائج استفتاء شعبي، لم تعترف بشرعيتها أوكرانيا ومعها الغالبية الساحقة من المجتمع الدولي، إلى جانب إعلان جنوب شرقي أوكرانيا المدعوم من جانب روسيا، انفصاله من جانب واحد منذ ذلك التاريخ. وعلى الرغم من كل الوعود التي أغدقها الاتحاد الأوروبي بشأن احتمالات انضمام أوكرانيا إلى هذه المنظومة، فلم نشهد طوال الأعوام السبعة الماضية خطوات جدية في هذا الاتجاه. وكانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أكثر وضوحاً في هذا الشأن، حين أفصحت عن أن البلدان التي سيجري بحث انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ستكون ستاً من بلدان البلقان، من دون الإشارة إلى أوكرانيا التي كانت في انتظار هذا الإعلان. وذلك موقف مشابه لموقف حلف الأطلسي الذي اكتفى بعقد اتفاقيات حول تعاون عسكري محدود، دون قرار أو وعد قاطع بضم أوكرانيا إلى صفوف الحلف.
خصم مشترك
وها نحن أمام زيارة مرتقبة للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى الولايات المتحدة في نهاية أغسطس (آب) الحالي، ثمة مَن يقول إنها قد تميط اللثام عن خطوات جديدة في اتجاه دعم مواقف أوكرانيا في مواجهة روسيا، الخصم المشترك للبلدين. وعلى الرغم مما تعقده القيادة الأوكرانية من آمال على هذه الزيارة، فإن الشواهد تقول إن واشنطن لا تزال تركن إلى تحفظاتها إزاء قسم كبير من سياسات كييف التي تقف أمام مفترق طرق بحثاً عن حليف يمكن أن ينقذها من المأزق الراهن التي بلغته كثير من سياساتها الداخلية والخارجية.
وفي هذا الصدد تقول مصادر أوكرانية، إن الاتصالات والاتفاقيات التي عقدتها كييف مع بكين أثارت قدراً من القلق لدى البيت الأبيض تجاه احتمالات توطد العلاقات الثنائية بين البلدين، وإن كان آخرون يقولون إن مثل هذه السياسات تصب عملياً في مجرى مصالح الولايات المتحدة التي تدفعها مصالحها المباشرة إلى الوقوف خلف التقارب الأوكراني- الصيني، من أجل "دق إسفين بين الصين وروسيا"، بحسب تقديرات فلاديمير يفسييف نائب مدير معهد بلدان الكومنولث (رابطة الدول المستقلة- السوفياتية السابقة).
غير أن الواقع يشير أيضاً إلى أن سياسة التقارب بين أوكرانيا والصين كانت تبدو وحتى الأمس القريب ضمن سياق السياسات البراغماتية للبلدَين، وإن تباينت أهدافهما، وهو ما كان لا بد أن يسفر عما باتت عليه هذه العلاقات في الوقت الراهن من خلافات. وكان الجانب الأوكراني اندفع في تقاربه مع بكين إلى الحد الذي أعلنت فيه قيادات أوكرانية أن حزب "خادم الشعب" الحاكم "يعتزم التعلم من تجربة الحزب الشيوعي الصيني في إدارة الاقتصاد وبناء الدولة، وأن مبادئ الحزبَين تتوافق إلى حد كبير، لأن شعارهما هو خدمة الشعب". بل مضت كييف إلى ما هو أبعد حين أعلنت عن تراجعها عن تأييدها حقوق الإيغور في الصين الشعبية، وقررت سحب توقيعها من بيان الأمم المتحدة بشأن انتهاك حقوق الإيغور في جمهورية الصين الشعبية، وهو ما فسره مراقبون في حينه، بأنه لم يكن سوى محاولة تكتيكية لبلوغ أهداف تتعلق بتوقيع البلدين للاتفاقية الاقتصادية التي تتضمن تنفيذ مشاريع مشتركة في مجال إنشاء البنية التحتية. وذكرت مصادر إعلامية أوكرانية أن القرار الذي اتخذته كييف بهذا الشأن يعود أيضاً إلى ما راودها من مخاوف تجاه احتمالات أن تمنع الصين توريد 500 ألف جرعة من لقاح "كورونافاك" الذي تستخدمه أوكرانيا في تلقيح مواطنيها ضد أخطار فيروس كورونا. كما أن تطورات العلاقات بين البلدين سرعان ما كشفت عن أن الأمر لم يكن يقتصر وحسب على اللقاح، حيث سرعان ما أعلن الجانبان عن توقيع ألكسندر كوبراكوف وزير البنية التحتية الأوكراني ووانغ وينتاو وزير التجارة الصيني، الاتفاقية الحكومية حول توسيع مجالات التعاون بين البلدين، بما في ذلك في مجال تنفيذ المشاريع المشتركة لبناء البنية التحتية. ويكفل ذلك لأوكرانيا الحصول على الاستثمارات الصينية، وموافقة الحكومة الصينية على تمويل كثير من المشاريع المشتركة في أوكرانيا بتسهيلات كبيرة، وهو ما جرى الكشف عنه في 6 يوليو (تموز) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت أوكرانيا قطعت شوطاً طويلاً على طريق تعزيز علاقاتها مع الصين التي اتخذت موقفاً متحفظاً من الاعتراف بضم روسيا، حليفتها الاستراتيجية، لشبه جزيرة القرم، ما قد يكون تفسيراً لاندفاع كييف نحو المزيد من توطيد علاقاتها مع بكين التي سرعان ما تحولت إلى الشريك التجاري الرئيس لأوكرانيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري في عام 2019 ما يقرب من 12.7 مليار دولار، ليرتفع في عام 2020 إلى 15.4 مليار دولار. كما تُعتبر الصين مستورداً رئيساً لخام الحديد والمنتجات الزراعية الأوكرانية. وفي هذا الصدد، أشار مراقبون إلى أن بكين أبدت اهتماماً ملحوظاً بالتعاون العسكري مع كييف انطلاقاً مما تملكه هذا الجمهورية السوفياتية السابقة من ترسانة مؤسسات صناعية عسكرية ورثتها عن الاتحاد السوفياتي السابق، فضلاً عما تعقده عليها من آمال التوسع في مجالات التعاون الزراعي بعد إعلان مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) موافقته على قانون "بيع الأراضي". على أن ذلك كله لم يكن كافياً لاعتبار العلاقات بين البلدين نموذجاً يمكن البناء عليه، حيث سرعان ما شهدت هذه العلاقات ما يشوبها من خلافات، بلغت حد وصف بعضها بـ"الفضائح". ومن هذه المشاكل التي تفاقمت بين البلدين، ما كان يتعلق بمشاركة الصين في مصنع زابوروجيه لمحركات الطائرات "Motor Sich". وقالت مصادر أوكرانية، إن بكين اشترت في عام 2016، 56 في المئة من أسهم هذه المؤسسة للصناعات الاستراتيجية، وهو ما لقي انتقادات حادة من جانب الولايات المتحدة. وطالب جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، كييف باستعادة هذه الأسهم بأي ثمن. كما ندد مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركية السابق بسياسات الحكومة الأوكرانية في هذا الصدد.
بين شريكين
وكانت هذه القضية تطورت إلى ما هو أبعد من ذلك، نتيجة ما خلص إليه جهاز الأمن الأوكراني من معلومات وقفت وراء تقديره لهذه الصفقة بوصفها "عملية تخريبية" من الجانب الصيني، ما دفع السلطات الأوكرانية إلى تحويل القضية برمتها إلى القضاء الذي أصدر حكمه بمصادرة 56 في المئة من أسهم الشركة. ونقلت المصادر الأوكرانية ما قاله زيلينسكي حول أن شركة "Motor Sich" مشروع استراتيجي ولا يمكن بيعها إلا بموافقة رئيس الدولة". ولم يكن أمام الجانب الصيني إلا رفع دعوى قضائية أمام المحاكم الدولية، وقدّر ممثلو جمهورية الصين الشعبية أضرارهم بـ3.5 مليار دولار، الأمر الذي رد عليه الجانب الأوكراني بفرض عقوبات على أربع شركات صينية، إلى جانب إصدار زيلينسكي قراره بتأميم الشركة. وتوالت "المشاكل"، ومنها ما جرى في ديسمبر (كانون الأول) 2020، عندما قررت وزارة الخارجية الأوكرانية إزالة كل معدات شركة "هواوي" (Huawei) الصينية من جميع مبانيها، فضلاً عن رفض السلطات الأوكرانية التعاون مع "هواوي" في مشروع إنشاء "المدينة الذكية"، لصالح شركة سيسكو الأميركية.
وثمة مَن يقول إن الصين عادت إلى تولية وجهها شطر روسيا حليفتها الاستراتيجية، ومن مواقع تقف على طرفَي نقيض من مواقفها السابقة مع أوكرانيا. ويقول مراقبون، إن الجدل السياسي عاد واحتدم بين أوكرانيا والصين في مارس (آذار) الماضي، في أعقاب وصول وفد صيني رفيع المستوى إلى شبه جزيرة القرم، وما صدر عنه من تصريحات تقول باستعداد الصين لضخ استثمارات واسعة النطاق في مجال بناء المنتجعات في شبه الجزيرة. ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيراً للخطوة التي قام بها أندريه تاران وزير الدفاع الأوكراني بزيارته إلى اليابان، وما أدلى به من تصريحات خلال لقائه مع نظيره الياباني نوبو كيشي، اعتبرتها الصين دعماً لطوكيو في نزاعاتها مع بكين بشأن الحدود في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي. وكان الوزير الأوكراني أعلن أيضاً عن عدم اتفاقه مع قانون الشرطة البحرية الصينية، الذي تم تمريره في ما يتعلق بالنزاعات الإقليمية ويسمح لحرس السواحل في جمهورية الصين الشعبية بإطلاق النار على السفن الأجنبية لحماية السيادة الوطنية.
ورغماً عن ذلك كله، تظل العلاقات الصينية- الأوكرانية تراوح مكانها في إطار التجاذبات السياسية التي تحدد المصالح المشتركة، محاورها الرئيسة. وكانت الصين عادت ثانية إلى أوكرانيا بوصفها إحدى المحطات الرئيسة على طريق الحرير إلى أوروبا، بعد ما سبق وأعادت النظر في هذا القرار، ظناً من جانبها بأن بيلاروس يمكن أن تكون بديلاً لأوكرانيا في هذا الشأن. لكن ما حدث في بيلاروس من اضطرابات في أعقاب الإعلان عن نتائج انتخاباتها الرئاسية، في مثل هذا الوقت من العام الماضي، وما تلى ذلك من أحداث وتطورات في سياق حادث "اختطاف" طائرة "ريان إير" وما ارتبط بذلك من اعتقال أحد ركابها من الناشطين السياسيين المحسوبين على المعارضة البلاروسية، كانت سبباً في تعقيد علاقاتها مع بلدان الاتحاد الأوروبي، سرعان ما دفع الجانب الصين إلى إعادة حساباته واتخاذ قرار العودة أسباب إلى الخيار السابق، وهو ما اعتبرته أوكرانيا سبيلاً إلى تعزيز مكانتها على خريطة المصالح الأوروبية.
ولعل ذلك كله، بحسب تقديرات المراقبين في العاصمة الروسية، هو ما لا بد أن يكون في صدارة اهتمامات الجانب الأميركي عند استقباله الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في البيت الأبيض مع نهاية الشهر الحالي. وهي الزيارة التي تظل أيضاً ضمن دائرة الرؤية والمتابعة من جانب الأوساط السياسية والعسكرية في كل من الصين الشعبية وروسيا الاتحادية.