كنتُ منذ نعومة أظافري، أمضي عطلة الصيف في منطقة بودروم التركية، وكانت قرية مازي التي تبعد حوالى 30 كيلومتراً عن منزلنا الصيفي، المكان المفضل لدي للسباحة، حتى أن طريق الوصول إليها كان يشكل جزءاً من تلك التجربة الممتعة. فهو كان يتعرج وسط غابات الصنوبر الكثيفة، التي تشكل نفقاً أخضر زمرديا، يفضي إلى جبال شديدة الانحدار تلفها أشعة الشمس. وكانت هناك أيضاً أودية خضراء تعج بغابات كثيفة. ولدى الوصول إلى الشاطئ المغطى بحجارة بيضاء، كان يطالعك البحر الفيروزي اللؤلؤي المترامي وسط الوديان.
وفي مناطق أخرى من بودروم، يمكن أن يجد مرتادوها مختلف أنواع الرفاهية. فنادق من خمس نجوم ومطاعم باهظة الكلفة وموسيقى حية ويخوت فاخرة. لكن قرية مازي كانت تنطوي على تجربة ريفية مختلفة لزائريها، تتمثل في العدد القليل من النزُل والمطاعم المتواضعة، التي يقدم قرويون متواضعون فيها خدمات لائقة ترحيباً بالسياح.
لكن عندما اندلعت حرائق الغابات واكتسحت أكثر من 200 بقعة في 47 بلدة، متسببةً في هلاك ثمانية أشخاص على الأقل، أخذت قرية مازي هي الأخرى نصيبها من الأضرار، فاحترقت آلاف الهكتارات من غاباتها عن بكرة أبيها. أما السكان فحالفهم الحظ في إنقاذ منازلهم، مع أن الأودية والجبال الخضراء اتشحت باللون الرمادي.
أردتُ العودة إلى مازي لأتحقق مما تبقى بعد انتشار النار المستعرة في أرجائها. لكن قبل الوصول إلى المنطقة، وعلى بعد نحو 100 كيلومتر منها، رأيتها مغطاةً بغبار وضباب كثيفين. أما نفق الغابة المؤدي إلى القرية فما زال يتلألأ باللون الأخضر، إذ أسهمت بعض الرياح المعاكسة في حمايته من الاحتراق. الشمس التي كانت تسطع سابقاً بقوة فيها، غابت عن الأنظار لبرهة من الوقت، ثم عادت إلى الظهور على شكل كرة برتقالية داكنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما كنتُ أواصل طريقي، بدأتُ أرى البقع الرمادية للأشجار المحترقة وسط الغابات التي كانت تتكدس كلما اقتربنا من القرية التي بدت، لبرهة، وكأنها متفحمة وجرداء، باستثناء تناثر بعض آثار الأشجار التي تمكنت من النجاة من ألسنة اللهب.
كانت هناك بعض الأشجار المترامية على أطراف الطريق الذي عمد رجال الإطفاء إلى قطعه لتحصين المنطقة من الوقوع في لجة النيران. وكلما كنتُ أقتربُ من القرية كان الضباب يزداد كثافة. وعلى الرغم من هدوء الحريق، كان ما زال بإمكاني أن أشم رائحة الدخان تحرق أنفي. أما اكتساح الرياح الغبار، فقد جعل من الصعب علي أن أفتح عيني.
شاحنات فرق الإطفاء التي عمل رئيس بلدية بودروم وبلديات أخرى على تأمينها، كانت منتشرة على طول الطريق لمنع اندلاع حرائق في المستقبل. وكانت سحب من الغبار تلف قمم الجبال. ولم يبق من الأشجار المحترقة سوى جذوع وأغصان سوداء، ظلت قائمةً لتشهد على الكارثة. وبعدما كانت مازي قريةً جميلة وهادئة في يوم من الأيام، بدت الآن كئيبة.
أهالي القرية تجمعوا في مقهى محلي لتنفس الصعداء، محاولين التعافي من الكارثة. أما الثروة الحرجية وزراعة الزيتون والسياحة (وهي مصادر الدخل الرئيسة)، فقد تأثرت بشدة بفعل الحرائق، ما جعل كثيراً من القرويين عالقين في وضع صعب للغاية.
ويشعر السكان بالعزلة والعجز وبأنه تم التخلي عنهم: فقد خاب أملهم بسبب غياب التنسيق وعدم كفاءة من جانب الحكومة. فلا الطائرات أو المروحيات نقلت المياه لإخماد النيران، وللأسف، لم تكن الجهود المبذولة على الأرض كافية.
اللافت أن كل محادثة أجريتها مع السكان المحليين كانت دوماً إما تأخذ منحى سياسياً أو تقود إلى نظريات المؤامرة. ولم يكن معظمهم راضياً عن التصريحات التي أدلت بها السلطات، وما زالوا يبحثون عن إجابات. الآن، وبعدما احترقت معظم أماكن البلدة، يساور الناس قلق من أن يكون هناك مخطط لبناء فنادق ومطاعم فاخرة فوق الأرض المحروقة.
الحجارة البيضاء المنتشرة على طول الشاطئ اكتست بالرماد، فيما تحول ما تبقى من مساحات خضراء محيطة بها إلى ظلال قاتمة من اللونين البني والرمادي. وفقد البحر هو أيضاً صفاء لونه الأزرق.
إن مشاهدة إحدى أجمل الوجهات التي عرفتها تُمحى من الوجود وتُدفن في عالم الذكريات، لأمر يعتصر القلب.
وبينما كنت أنظر بحزن عميق إلى مشهد الأفق الضبابي البعيد الذي بالكاد كان يكشف عن معالم الجزر اليونانية الأخرى المجاورة، دنا مني أحد القرويين وهمس لي، "هناك قول اعتدنا دوماً أن نردده، وهو أن الكارثة تضرب وترحل، لكن ما تخلفه وراءها هو المعاناة، أما الآن فنقول، إن الكارثة ضربت ومضت في سبيلها، وما تركته وراءها هو الموت".
© The Independent