لا شك في أن دوائر القرار في إيران تراقب عن كثب تفاصل التطورات التي تجري داخل أفغانستان، سواء دخول قادة حركة "طالبان" إلى العاصمة كابول بعد سيطرتها على كامل الأراضي الأفغانية، والتداعيات التي ترافق عملية انسحاب القوات الأميركية وتلك التابعة لحلف "الناتو" من هذا البلد، فضلاً عن التحديات الناتجة من عودة "طالبان" وتأثيرها على مواقف الدول المعنية سواء في منطقة آسيا الوسطى وفي مقدمها روسيا والصين ثم باكستان والهند، ومواقف المجتمع الدولي، وصولاً إلى التحديات التي تواجهها إيران جراء انتشار عناصر هذه الحركة على طول الحدود المشتركة، وموجات اللاجئين الذين توافدوا إلى المناطق الحدودية وعبروا إلى الأراضي الإيرانية.
لعل طهران الأكثر ارتياحاً لقرار الإدارة الأميركية وحلف "الناتو" الخروج أو الانسحاب من خاصرتها الشرقية في أفغانستان، خصوصاً أنه يأتي أو يصب في سياق الرؤية أو الاستراتيجية التي رفعها المرشد الأعلى للنظام رداً على اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد فجر الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020، والقائمة على إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا، خصوصاً من أفغانستان والعراق وسوريا. فهذا الانسحاب يحقق المرحلة الأولى من تلك الاستراتيجية، في انتظار تحقيق المرحلة الثانية وبدء انسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق أواخر العام الحالي، على أن تستمر الجهود الإيرانية لتحقيق المرحلة الثالثة بانسحاب أميركي من سوريا. وما يهم الجانب الإيراني في هاتين المرحلتين، لن يكون التمسك بانسحاب كامل، بل في خروج القوة القتالية من هذين البلدين (العراق وسوريا) في المدى القريب أو البعيد.
في المقابل، فإن طهران قد تكون الأكثر قلقاً من تداعيات الانسحاب من أفغانستان وتأثيراته على أوضاعها في منطقة غرب آسيا والتوازنات التي أقامتها بدقة، وما تحمله من انعكاسات على عمق التحالفات والعلاقات التي أبرمتها وعقدتها مع الدول المعنية أو المؤثرة في أحداث هذه المنطقة، خصوصاً أن قرار الانسحاب والأحداث الدارماتيكية التي شهدتها العاصمة الأفغانية قبل الموعد المقرر لهذا الانسحاب، قد يربكا الحسابات الإيرانية التي كانت تعمل على نسج خيوطها لقطع الطريق على أي تطورات من خارج السياقات المرسومة أو المتوقعة. علماً أن القيادتين السياسية والعسكرية في إيران لم تنتهيا من تسويق وتسويغ مواقفهما غير المتشددة، والمرحبة إلى حد ما بعودة حركة "طالبان" إلى السلطة، خصوصاً في الداخل الإيراني حيث تنظر الذاكرة إلى "طالبان" نظرة سلبية على خلفية التهديد الذي تشكله سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً وعقائدياً.
وتنظر دوائر القرار في إيران إلى التطورات التي تشهدها أفغانستان والفوضى المسيطرة على المشهد السياسي، على أنها نتيجة لعقدين من الوجود الأميركي في هذا البلد. وتعتبر تلك الدوائر أن ذاك الوجود لم يساعد الشعب الأفغاني في بناء دولة قوية قادرة على صوغ تفاهمات بين المكونات الاجتماعية العرقية والقومية والمذهبية، ولم يجلب لأفغانستان سوى مزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار وغياب الأمن واستمرار الصراعات، إضافة إلى تدمير البنى التحتية والاقتصادية لهذا البلد.
وعلى الرغم من فشل المساعي التي بذلتها طهران لإشراك الحكومة الأفغانية في التفاوض بين حركة "طالبان" والإدارة الأميركية، ولعب دور الوسيط بين الطرفين الأفغانيين من خارج مفاوضات الدوحة، إلا أنها تمكنت من صوغ تفاهمات مع قيادة "طالبان" بشأن مستقبل العلاقة بينهما، واستغلال القنوات التي أقامتها مع هذه الحركة خلال سنوات المعركة المفتوحة مع القوات الأميركية، في إطار الخدمات المتبادلة بينهما، والتي تلتقي في نقطة واحدة هي العمل على إضعاف القوات الأميركية ودفعها إلى الانسحاب من هذا البلد.
وسط هذا، جاء مشهد قادة "طالبان" وعناصرها في القصر الرئاسي في كابول، ومغادرة الرئيس أشرف غني إلى طاجيكستان ومنها إلى سلطنة عمان، بحسب آخر المعلومات الأفغانية، تاركاً البلاد في فراغ سياسي ودستوري وحالة من الفوضى وغياب لمؤسسات الدولة، ملتزماً بالشرط الذي وضعته قيادة "طالبان" بعدم التفاوض معه وخروجه من السلطة. وذلك، بالتزامن مع تحركات إقليمية ودولية وجهود تبذل من أجل إقناع الأطراف الأفغانية المعنية بالوضع الجديد بتشكيل حكومة مؤقتة، وترقب لاتجاهات الموقف الذي ستعتمده حركة "طالبان" بعد فرض سيطرتها على كامل الأراضي الأفغانية وإنهاء سلطة الحكومة المعترف بها دولياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صعود "طالبان" السريع لكن المتوقع، لم يفقد قيادة النظام الإيراني "أعصابها"، بل سعت لفهم وتفهم استراتيجية الحركة في المرحلة المقبلة. ويُعتقد في طهران أن تلك الاستراتيجية تقوم على مبدأ "الحرب والسلام". أي توظيف التقدم والسيطرة الميدانية على الأراضي الأفغانية لتعزيز قدراتها التفاوضية في الجانب السياسي. وقد برز ذلك من خلال التدرج في العمليات العسكرية التي خاضتها الحركة وعملية القضم التدريجي للمناطق وصولاً إلى حصار العاصمة ثم دخولها والسيطرة على مؤسسات الدولة فيها وإعلان سقوط حكومة أشرف غني. الأمر الذي منحها تفوقاً وقدرة على فرض شروطها في مواجهة اقتراحات الحل والحوار وحتى رفضها.
وتعتقد طهران أن البعد الآخر من استراتيجية "طالبان" يقوم على تحقيق أكبر قدر من المشاركة في السلطة، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأنها لن تذهب إلى تشكيل حكومة من لون واحد يمثلها، لأن قادة هذه الحركة يدركون أن الذهاب إلى مثل هذا الخيار- أي تشكيل حكومة من لون واحد- لن يساعدهم أو يسهل جهودهم للحصول على اعتراف دولي، فضلاً عما يمكن أن تواجههم في الداخل من تحديات وتصاعد العداء لهم من الأحزاب والقوى المنافسة أو المعارضة لهم. بالتالي، فإن المتوقع أن تذهب "طالبان" إلى خيار المشاركة في حكومة ائتلافية تكون لها الحصة والقوة والنفوذ الأكبر فيها.
ولا تستبعد طهران أن تتعامل قيادة "طالبان" بإيجابية مع مجلس التنسيق الذي أعلن عن تشكيله في الأيام الماضية والمؤلف من الرئيس السابق حامد كرزاي ونائب الرئيس ومسؤول لجنة المصالحة الوطنية عبدالله عبدالله ورئيس الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، وأن يتوسع هذا المجلس لمشاركة التيارات السياسية الأخرى الفاعلة في داخل أفغانستان، وأن يعمل هذا المجلس لتشكيل حكومة مؤقتة مهمتها العمل على تسهيل ولادة حكومة أصيلة ودائمة، خصوصاً أن المواقف المعلنة لقيادة "طالبان" تؤكد سعي الحركة لبناء شراكة مع القوى الأفغانية الأخرى لإضفاء الشرعية الوطنية على وجودها في السلطة وتسهل عملية دمجها في المجتمع الدولي.
تطور الأحداث الأفغانية مفتوحة على جميع الاحتمالات، ولا يمكن التوقف عند ما هو قائم أو في طور التبلور في هذه المرحلة، لذا فإن المتوقع أن تشهد الساحة الأفغانية مستقبلاً تحولات وتطورات واسعة، لجهة أن كثيراً من اللاعبين الداخليين يسعون لتكريس مشاركتهم ودورهم وتأثيرهم في التطورات القائمة، وهم يرون في ما يحدث الفرصة المناسبة لتحقيق هذه الأهداف بعيد الأمد. إضافة إلى أن اللاعبين الاقليميين والدوليين سيسعون ليكون لهم دور أكبر وتأثير أوسع في مستقبل هذا البلد وامتداداته باتجاه منطقة آسيا الوسطى وما يعنيه ذلك من صراعات حول مستقبل وأثقال الدول الفاعلة فيها.