خلف ابتساماتهم المرسومة بعناية وانتصاراتهم المميزة ونجاحاتهم في الأولمبيات والملاعب، يخفون قلقاً واكتئاباً يصل في أحيان كثيرة إلى مرحلة الانتحار، إنهم نجوم الرياضة. هؤلاء النجوم الذين يحسدهم كثير من المتابعين والمعجبين، يعانون خوف الخسارة أو التقصير في أداء مهماتهم والسعي الدائم نحو المراتب الأولى، ما يجعلهم في توتر دائم من خسارة ما وصلوا إليه من شهرة ونجومية ورفاهية.
ومع هذا يخفون معاناتهم حتى عن أقرب المقربين، مما يضعهم تحت ضغوط تنفجر في لحظة معينة إما انتحاراً أو مرضاً أو اعتزالاً. ولم يتمكن ليونيل ميسي لاعب كرة القدم الأرجنتيني، من إخفاء مشاعره في مؤتمره الصحافي الوداعي لنادي برشلونة بعد سنوات طويلة في ربوعه، حيث كان شريكاً في عديد من الإنجازات العالمية والقارية، فأجهش بالبكاء في مشهد صادم للجمهور.
أمراض عصبية
في دراسة أجرتها جامعة غلاسكو، إحدى أكبر جامعات اسكتلندا، ونشرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، كشفت أن لاعبي كرة القدم أكثر عرضة للوفاة بالأمراض العصبية التي تصيب الرأس بمقدار 3 أضعاف ونصف من بقية الناس.
وكان الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم ورابطة لاعبي كرة القدم المحترفين قد كلفا الجامعة بإصدار التقرير بناءً على تقييم السجلات الطبية لـ7676 لاعباً شاركوا احترافياً في اسكتلندا بين عامي 1900 و1976. وتمت مطابقة سجلات اللاعبين مع أكثر من 23 ألف شخص من عموم السكان، في الدراسة التي ترأسها استشاري الأمراض العصبية الدكتور ويلي ستيوارت من جامعة غلاسكو.
وأشارت النتائج التي توصل إليها ستيوارت إلى أن "مخاطر الإصابة بمرض ألزهايمر ازدادت 5 أضعاف، و4 أضعاف في مرض الخلايا العصبية الحركية، وضعفين في مرض الشلل الرعاش لدى لاعبي كرة القدم المحترفين السابقين".
كما أظهرت الدراسة أنه "على الرغم من أن لاعبي كرة القدم كانوا أكثر عرضة للوفاة بسبب الأمراض العصبية، فإنهم أقل عرضة للموت بسبب أمراض شائعة أخرى، مثل أمراض القلب وبعض أنواع السرطان، بما في ذلك سرطان الرئة".
وفي دراسة أخرى نشرت أبريل (نيسان) 2020، ونقلها الاتحاد الدولي للاعبي كرة القدم المحترفين "فيفبرو"، وذلك بعد انتشار كورونا تقول، إن واحداً من بين كل عشرة لاعبين في العالم مصاب بالاكتئاب النفسي، نتيجة توقف المسابقات والمنافسات المحلية والقارية ضمن إجراءات الحجر الصحي المفروضة للحد من تفشي فيروس كورونا. وتزداد هذه النسبة لدى اللاعبين في الدرجات الأدنى من اللعبة، التي لا يتقاضى المحترفون فيها مرتبات عالية، كنظرائهم في المسابقات الكبرى.
ورأى فيليب غودين، عالم النفس الرياضي في جامعة لوفان البلجيكية، أن لاعبي كرة القدم المحترفين يمرون بوضع غير مسبوق نتيجة توقف المنافسات الذي فرضه وباء كورونا، من "الضياع" إلى "القلق" و"التوتر" و"الاشتياق". ويضيف أن اللاعبين كانوا "في فقاعتهم، والآن أصبحوا تائهين، لأنهم اعتقدوا أن فترة الحجر لن تكون طويلة".
وفي دراسة أجراها الـ (فيفبرو) أيضاً نشرت عام 2015 تقول، إن واحداً من كل ثلاثة لاعبين يعاني الاكتئاب أو القلق. وجاءت النتائج بناءً لفحص 826 حالة من خمس دول مختلفة، وخرجت بنتيجة مفادها أن نسبة الذين يعانون أمراضاً نفسية وصلت إلى 38 في المئة، فيما تبلغ نسبة المعتزلين الذين يعانون المرض النفسي 35 في المئة، وهذا دليل واضح على أن مرض الاكتئاب هو الأكثر شيوعاً بين لاعبي كرة القدم، بخاصة أن معظم الحالات لا يصرح عنها أصحابها ويحاولون إخفاءها خوفاً من خسارة عقودهم.
كما ذكرت مجلة "فور فور تو" البريطانية، أن 78 في المئة من اللاعبين المحترفين في إنجلترا واسكتلندا مروا بفترات اكتئاب ليس فقط بسبب النتائج السلبية أو الهجوم من الجماهير ووسائل الإعلام، إنما بسبب التعرض للعنصرية.
انتحار الرياضيين
يبدو أن ملايين الدولارات والسيارات الفخمة والرفاهية لا تمنع نجوم الرياضة من الإصابة بالاكتئاب. أعباء الشهرة والنجومية دفعت بعديد من الرياضيين إلى إنهاء حياتهم بسبب مشكلات أو ضغوط نفسية وأسرية أو مهنية.
لاعب كرة القدم الألماني أندرياس بيرمان، الذي وضع حداً لحياته بإقدامه على الانتحار عام 2014، وكان في الثالثة والثلاثين من عمره، بعد معاناة من انهيار عصبي بعد وفاة صديقه الحارس الألماني إيكر روبرت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روبرت إنكه، حارس هانوفر والمنتخب الألماني سابقاً، أقدم على الانتحار بسبب الاكتئاب، بطريقة مأسوية، حيث رمى بنفسه أمام أحد القطارات السريعة، وذلك في نوفمبر (تشرين الأول) 2009. وكان من أحد أكثر الأشخاص الذين حظوا بحب من قبل الجماهير داخل وخارج ألمانيا.
عانى إنكه الاكتئاب بأسوأ صوره على الإطلاق، وبدأ بـ"الشك الذاتي" الذي كان يلازمه دائماً في قدراته وأفكاره، حسب ما جاء على لسان المقربين منه. وكان إنكه قد فقد ابنته بعد مولدها بعامين في أعقاب إصابتها بعيب حاد في القلب، ما دفعه إلى الدخول في حالة اكتئاب حاد كانت لديه، وربما بصورة أكبر.
إدوارد كوسولابوف، المهاجم السابق لفريقي دينامو موسكو، ولوكوموتيف نوفجورود الروسيين، أقدم على الانتحار بطريقة مأسوية، حيث أطلق النار على رأسه، وكان في عمر الثامنة والثلاثين.
ومن بين الرياضيين البارزين الذين اختاروا الانتحار بسبب الاكتئاب جوستن فاشانو، نجم كرة القدم الإنجليزى، الذي أنهى حياته وهو في السابعة والثلاثين من عمره. عام 1990، اعترف فاشانو بأنه مثلي الجنس من خلال وسائل الإعلام، الأمر الذي قابله الجمهور بهجوم عنيف أدى إلى اعتزاله كرة القدم وبعد 4 سنوات من اعترافه، في عام 1998 مات منتحراً بعد اتهامه في قضية جنسية.
كيلي كاتلين الدراجة الأميركية وجدت ميتة في شقتها في مارس (آذار) 2019، وكانت في عمر الثالثة والعشرين. وصرح والدها حينها لمجلة "فيلو نيوز" بأنه يعتقد أن ابنته أقدمت على الانتحار. وأضاف، "بعد إصابتها بالارتجاج، بدأت تشعر بالتشاؤم. فليس للحياة معنى. كانت امرأة مكتئبة. لم تكن قادرة على التركيز على دراستها أو العمل بجد".
وكانت كاتلين حصلت على ميدالية فضية في ألعاب ريو دي جانيرو الصيفية عام 2016، ضمن سباق الفرق. وعانت كاتلين التي كانت طالبة في علوم الكمبيوتر والرياضيات في جامعة ستانفورد، الاكتئاب بعد حادثتين.
رياضيون مكتئبون
فاجأت نجمة كرة المضرب اليابانية نعومي أوساكا العالم مايو (أيار) الماضي، بإعلانها الانسحاب من بطولة فرنسا المفتوحة حفاظاً على صحتها الذهنية. وجاء إعلان المصنفة الثانية عالمياً بعد دخولها في مواجهة مع منظمي البطولة، بسبب رفضها المشاركة في المؤتمرات الصحافية، ثم أقرت بعد الانسحاب "الحقيقة هي أنني مررت بفترات طويلة من الاكتئاب منذ بطولة الولايات المتحدة المفتوحة 2018 (التي توجت بلقبها)، وقد واجهت كثيراً من الصعوبات للتعافي".
أسطورة السباحة الأميركي مايكل فيلبس كشف أنه عانى نوبات اكتئاب. الأميركي الفائز بـ28 ميدالية أولمبية منها 23 ذهبية (رقمان قياسيان في تاريخ الألعاب)، عانى الاكتئاب بعد كل الألعاب الأولمبية التي شارك فيها بين سيدني 2000 وريو 2016. بعد لندن 2012، قضى أياماً في غرفة بمفرده خلال أشد حالات اكتئابه. واعترف السباح الأميركي قائلاً "لقد تمكنت من تحقيق بعض العروض المذهلة داخل أحواض السباحة وصارعت في خارجها. كان هناك جزء من حياتي لا أريد أن أعرفه".
السباح الأسترالي إيان ثورب كشف أيضاً في عام 2016، أنه يعاني الاكتئاب منذ أن كان مراهقاً. نقل الفائز بخمسة ألقاب أولمبية الى المستشفى في عام 2014 بعد أن وُجد يتجول في سيدني وهو غير مدرك أين هو.
وأوضح ثورب "من الخارج، لم يستطع كثيرون رؤية معاناتي أو فهم المعاناة اليومية التي كنت أواجهها أحياناً. إنه جزء لا يتجزأ من خداع الاكتئاب والاضطرابات العقلية".
متلازمة الاحتراق النفسي
حالة مؤمن زكريا لاعب كرة القدم المصري، نجم الأهلي، فتحت الحديث حول دور المرض النفسي والضغوط التي تواجه لاعب كرة القدم، الرياضة الأكثر شعبية في العالم ودورها في ابتعاد المحترفين منهم عن فرقهم بعد التأثر بالضغوط الهائلة التي تصنعها اللعبة وتؤثر على الحياة الشخصية.
وكان زكريا قد ظهر في فيديو وتحدث عن إصابته، وقال "إن نسبة 60 في المئة من حالته نفسية، لأنه كان وحيداً في فترة مرضه". زكريا الذي أصيب بالتصلب الجانبي الضموري في العضلات، وهو مرض نادر الحدوث لا يصاب به إلا شخص من كل مليونين، وسريع الانتشار في جميع أنحاء الجسم.
ويقول خبراء في الطب النفسي، إن حالة زكريا النفسية هي "متلازمة الاحتراق النفسي"، وهي حالة جرت صياغتها من قبل عالم النفس الأميركي هربرت فرويدنبرغ في السبعينيات، وذلك لوصف عواقب الإجهاد النفسي الشديد، وبحسب الدراسات التي أجريت فإنه لا يوجد تشخيص دقيق لهذه الحالة في الأوساط الطبية.
ويعتبر محمد إبراهيم عبد الرازق، الحائز دكتوراه في التدريب الرياضي بجامعة نيوكاسل، عضو الجمعية المصرية لعلم النفس الرياضي، أنه من المؤسف إهمال الإعداد النفسي للاعبين وتجاهل الأضرار النفسية لهم داخل الأندية، واعتبارها من الأمور الثانوية، مضيفاً، "كثير من الأندية التي تنفق بسخاء على تعاقدات المدربين واللاعبين الأجانب تبخل في هذا الجانب، على الرغم من أن الدراسات الحديثة أشارت إلى أنه لأجل تحقيق إنجاز، فإن العامل البدني والمهاري يشكل 60 في المئة في تحقيق هذا الإنجاز، فيما العامل النفسي 40 في المئة".