على الرغم من مرور حوالى أربع سنوات على رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن السودان، وثمانية أشهر منذ إزالة اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلا أن المصارف السودانية ما زالت تشكو عقبة عدم تمكنها من استئناف نشاطها وتعاملاتها المصرفية مع نظرائها في العالم، لكن نائب محافظ "بنك السودان المركزي" فاروق محمد نور أشار إلى مواجهة مصارف بلاده تحديات في الجوانب الفنية عقب رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وسط توقعات بحدوث انفراج واندماج قريباً مع المصارف العربية والعالمية.
ونوّه خلال مخاطبته الثلاثاء 17 أغسطس (آب) الحالي ورشة عمل حول فعالية نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في المصارف والمؤسسات المالية، بأن المصارف السودانية فقدت عقب تشديد العقوبات على البلاد عام 2014 حوالى 85 في المئة من "المراسلين" (ممثلو مصارف أجنبية)، مما خلق لها إشكالات وعدم انسياب للتجارة، ومع ذلك يعتقد أن مصارف السودان شهدت تطوراً ملحوظاً حيث يعمل 17 بنكاً سودانياً عبر تقنية الـ "إيبان".
غرامات جزائية
وفي هذا الشأن أوضح نائب محافظ بنك السودان المركزي الأسبق مساعد محمد أحمد في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن "المصارف السودانية عانت كثيراً خلال فترة الحظر المصرفي بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأميركية على السودان عام 1997، وزادت المعاناة بعد عام 2013 نتيجة الغرامات الجزائية التي فرضتها واشنطن على البنوك المخالفة لقرار الحظر، مما أدى إلى وقف التعامل مع ما تبقى من مراسلين دوليين، وبالتالي تراجعت الحركة المصرفية مع عدد من البنوك العالمية بخاصة مع الدول الأوروبية وأميركا، لكن تاريخياً كان للبنوك السودانية تعاملات مع مصارف أميركية وأوروبية بشكل مباشر وغير مباشر، ولم تكن هناك إشكالات تُذكر، بل كانت الحركة المصرفية تسير بسلاسة تامة، وهو ما يشير إلى أن القطاع المصرفي السوداني لم يكن بعيداً من مواكبة التطور الذي صاحب المنظومة المصرفية".
وتابع، "تم رفع الحظر الاقتصادي الأميركي عن السودان في أكتوبر (تشرين الأول) 2017 وأيضاً تم إزالة اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وتبقى التنفيذ الفعلي لاستئناف التعاملات المصرفية الخارجية، وهو ما لم يتم حتى الآن لإشكالات عدة أهمها أن المصارف السودانية غابت عن التعاملات مع البنوك المختلفة في دول العالم لسنوات طويلة، وتحتاج عودتها لممارسة هذا النشاط أن تطمئن البنوك الخارجية على واقع ومستجدات المصارف السودانية من ناحية المراكز المالية، ومدى التزامها بالمعايير الدولية المرتبطة بأنظمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتمثيل الضريبي والحوكمة، وهي قضايا أصبحت في غاية الأهمية في هذا القطاع".
توطين الأنظمة
وزاد مساعد أحمد، "بحسب متابعتي فإن العاملين في القطاع المصرفي السوداني مدركين لما حدث من فجوة، ويعملون حالياً لتجاوز تلك المعضلة، بخاصة أنه سبق أن صدر 2014 قانون خاص بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وحصل فيه تقدم جيد، لكن لا تزال هناك حاجة لجهود أكبر لتوطين هذه الأنظمة من خلال التعاون مع الجانب الدولي لما يمتلكه من خبرات وتجارب في هذا الخصوص، كذلك فالمسألة متعلقة أيضاً بضرورة أن يكون هناك اقتصاد متكامل يشجع نمو حركة الأموال والاستثمار، ويراعي الأسس المصرفية في ما يخص المتعاملين مع البنوك وحساباتهم والجوانب السرية وما يسندها من القانون والعرف والسلامة المالية، فضلاً عن كفاية رأسمال البنك وموازنته، فكل هذه الأشياء مطلوبة من القطاع المصرفي في البلاد لإقناع وطمأنة المصارف الخارجية".
ولفت إلى أن "هناك تحسناً كبيراً في السلامة المصرفية، لكن تدهور مؤشرات الاقتصاد السوداني الذي انعكس على سعر الصرف بشكل كبير بتصاعده المستمر قبل قرار توحيده في السوقين الرسمي والموازي، أثّر في مشهد البنوك"، منوهاً إلى أن "متطلبات البنوك واضحة ومرتبطة بالجانب العام للاقتصاد الكلي وحركة الأموال وعدم التدخل من قبل الدولة في شؤونها، في حين أن تحسن العلاقات مع المجتمع الدولي ينشط التعاملات مع البنوك من ناحية تدفق الاستثمارات".
وأوضح نائب محافظ بنك السودان المركزي الأسبق أن "الانفتاح الكلي للسودان تجاه العالم الخارجي في مجال التجارة الخارجية وحركة المغتربين السودانيين والمستثمرين الأجانب من شأنه أن يسهم في عودة البنوك السودانية تدريجاً إلى موقعها الطبيعي الذي كانت عليه في السابق"، مبيناً أن "حركة التجارة الخارجية وحركة الأموال هي التي تحدد تمركز المراسلين للبنوك السودانية، وتاريخياً كانوا يتمركزون في أميركا ودول أوروبا مثل إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وعربياً في السعودية ومصر ولبنان والامارات وقطر والبحرين، إضافة إلى الصين والهند واليابان وماليزيا وسنغافورة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسباب مزدوجة
في السياق، قال الباحث الاقتصادي محمد الناير إن "مشكلة عدم استئناف المصارف السودانية عمليات التحويل من الخارج تعود لأسباب مزدوجة محلية وخارجية، وكنا نعتقد أنه منذ رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية بصورة جزئية في يناير (كانون الثاني) 2017 ثم اكتمالها في أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، تحقق لبنوك السودان التعامل مع نظرائها في دول العالم كافة من دون استثناء، لكن يبدو أن المصارف العالمية كان لديها تحفظ بسبب وجود السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب آنذاك، وهذا الأمر انتفى في ديسمبر 2020، لذلك لا يوجد الآن مبرر لعدم استئناف التعاملات المباشرة".
ولفت الناير إلى أن "الأمر يتطلب من السلطات السودانية المختصة متابعة التعميم الجديد الصادر من مكتب مراجعة الأصول الأجنبية التابع للخزانة الأميركية للتأكد بأنه وصل بالفعل إلى المصارف العالمية، وأصبح قابلاً للتنفيذ ولا توجد عقبات تحول من دون تنفيذه، ومن الأفضل أن يقوم وفد مشترك من بنك السودان المركزي والمصارف السودانية بزيارة خارجية لإحياء شبكة المراسلين السابقين، وإضافة مراسلين جدد لتسهيل عملية انسياب التحويلات من الخارج"، لكنه يرى أن "قضية هيكلة المصارف السودانية تظل مسألة ملحة للغاية، إذ ما زالت هناك بنوك رأسمالها في حدود 250 مليون جنيه سوداني (بين 500 و 600 ألف دولار)، مما يتطلب توفيق أوضاعها سريعاً بزيادة رأسمالها إلى معدلات مقبولة أو إحداث عملية إندماج بين البنوك المحلية ذات الرأسمال الصغير الحجم، لضمان مصرفية قوية تستطيع منافسة البنوك العالمية، فضلاً عن تطبيق ضوابط الحوكمة بلا استثناء"، مؤكداً أنه إذا تمت هذه الخطوة فمن شأنها أن تسهل عمليات التعامل وعلاقات التعاون بين المصارف السودانية ونظيراتها في الخارج".
ونوه الناير بأن "السودان يمتلك كوادر مصرفية مؤهلة أسهمت بشكل كبير في تطوير المصارف الإقليمية والدولية، لكن غياب الكوادر المحلية عن التكنولوجيا المصرفية خلال فترة الحظر المصرفي يجعلها بحاجة إلى تأهيل وتدريب خارجي عال المستوى لتطوير قدراتها للمرحلة المقبلة التي تشهد معاملات مصرفية عدة، في ظل توقعات دخول بنوك عالمية كبيرة للعمل داخل البلاد، وهو أمر إيجابي يحتاج إلى أن يكون المناخ الاقتصادي مهيئاً من كل جوانبه".
36 مصرفاً
ويضم السودان حالياً 36 مصرفاً أربعة منها حكومية، وسبعة تجارية عربية، و25 مصرفاً مشتركاً برأسمال محلي وأجنبي.
وتواجه هذه المصارف حركة إعادة تنظيم كبيرة خلال العام الحالي لمعالجة الأضرار الناجمة عن عقود من العزلة الدولية وتدخل الدولة في عملها، كما
عانت تداعيات سنين طويلة ظلت العملة المحلية فيها مقدرة تقديراً غير واقعي لقيمتها الحقيقية، إذ تفاقمت الديون بالعملة الصعبة على العديد من تلك البنوك منذ خفض البنك المركزي في فبراير (شباط) الماضي سعر الصرف الرسمي من 55 جنيهاً سودانياً للدولار إلى حوالى 375 جنيهاً، فيما لم يجتز سوى 19 بنكاً "اختبار تحمل" أُجري حديثاً لمعرفة كيف ستلبي البنوك متطلبات عملائها بعد خفض قيمة العملة.
وأمهل بنك السودان المركزي هذه البنوك حتى نهاية العام لزيادة رؤوس أموالها من طريق طلب التمويل من المساهمين أو الإندماج مع بنوك أقوى.
وكان البنك المركزي ذكر في فبراير الماضي أنه سيبيع حصصه في نحو 11 بنكاً، ويسمح لها بالأنشطة المصرفية غير الإسلامية للمرة الأولى خلال أكثر من 30 سنة.