تعايشت الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، خلال الحكم العربي لإسبانيا جنباً إلى جنب طوال قرون، ما رسخ تقاليد فنية نابضة بالحياة ومُتقاطعة في التفاصيل والتأثيرات. وقد تداخلت في فنون الحقبة الأندلسية عناصر ووسائط مشتركة، بدءاً من الزخارف إلى العمارة والكتابة وتزيين أو رسم المخطوطات، وغيرها من الفنون والإبداعات الأخرى. ونستطيع أن نلمح ذلك بسهولة في الآثار المعمارية والعناصر الفنية التي وصلتنا من هذه الفترة التاريخية.
من أجل تسليط الضوء على هذه الفنون وما انطوت عليه من تقاطعات بفعل هذا التقارب بين العقائد الثلاث في الأندلس، يستضيف متحف متروبوليتان حتى نهاية يناير (كانون الثاني) المقبل معرضاً تحت عنوان "الفن على حدود الإيمان". والأعمال التي يضمها المعرض تعكس التنوع الذي حظيت به الفنون الإسبانية خلال الحقبة الأندلسية ونقاط التقارب والتأثر في ما بينها. ترتكز فلسفة المعرض على فكرة رئيسة تسلط الضوء على السهولة التي يتجاوز بها الفن الأفكار والاختلافات العقائدية. يضم المعرض أكثر من أربعين قطعة فنية منفذة بوسائط مختلفة، من منسوجات حريرية ومنحوتات عاجية، ومخطوطات ولوحات جدارية، تتفاعل جميعها في حوار مشترك لتحكي قصة هذا الماضي الديناميكي المُترابط وانعكاساته وتأثيره في الحاضر.
حقبة أندلسية محورية
يغطي المعرض حقبة زمنية من عام 1000 إلى عام 1200 ميلادياً، وهي حقبة محورية في تاريخ الأندلس شهدت تحولات كبيرة في ميزان القوى بين الحكام المسلمين والمسيحيين، وزعزعت استقرار العلاقات الاجتماعية التي كانت راسخة لفترة طويلة. اللافت هنا أن الفنون التي وصلتنا من تلك الحقبة لا تعكس أبداً كل هذه الانقسامات والتوترات الاجتماعية والسياسية، فأغلب هذه الفنون ينطوي على تأثيرات وعوامل مشتركة ومتداخلة إلى حد كبير. يشبه الأمر هنا الكيفية التي يستلهم بها الفنانون اليوم العديد من مصادر التأثير، والتوظيف الفني لعناصر ورموز ثقافات مغايرة.
شهدت هذه الحقبة التي يغطيها المعرض تحولات في ميزان القوى بين الحكام المسلمين والمسيحيين، الذين قُسم شبه الجزيرة الأيبيرية في ما بينهم. وخلال هذه الفترة تحولت الحدود الجيوسياسية إلى أماكن مهمة للتواصل والتبادل بين الأقاليم المتصارعة. نرى ذلك مثلاً في الآثار التي تعود إلى المناطق التي كانت خاضعة للحكم المسيحي، والتي تأثرت بالفنون الإسلامية عبر التبادلات التجارية والبضائع التي كانت تنتقل من مكان إلى آخر بحرية، كالحرير الملون والعاج المنحوت بدقة. امتزجت عناصر هذه الفنون عند الفنان المسيحي على نحو لافت بتأثيرات أخرى مستلهمة من النمط الروماني الغربي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعود معظم الأعمال المعروضة إلى مجموعة المتحف، مع بعض الاستعارات المختلفة من مؤسسات أخرى. ومن أمثلة هذه المعروضات نسخة أصلية من التوراة مزينة بعناصر زخرفية مستلهمة من الفن الإسلامي، ومخطوطة نادرة من القرآن الكريم مكتوبة بالخط المغربي، ونماذج لشواهد قبور عليها نقوش وكتابات عربية، ومزينة بأقواس على هيئة حدوة الحصان، على غرار هذه الموجودة في مسجد قرطبة الكبير. بالإضافة إلى نقوش وصور تعود لأحد الأديرة وهي تعكس التوظيف الفني لهيئة الجمل، وهو من الحيوانات التي أدخلها العرب إلى إسبانيا، خلافاً للرسم والزخارف الأخرى التي تمزج بين الأساليب البيزنطية والإسلامية.
يأتي اعتماد المعرض مفهوم الحدود أو التخوم في إشارة إلى دلالات الكلمة وما تنطوي عليه من أفكار ومعان لها علاقة بالفصل والربط في آن، على المستوى السياسي والجغرافي، وعلى مستوى الأفكار والثقافات أيضاً.
تقول أمينة المعرض، جوليا بيراتور، إن الحدود الجيوسياسية أو الأراضي الحدودية تفهم عادة على أنها أماكن تفصل وتربط بين أقاليم مختلفة في الوقت نفسه. هذا المفهوم المزدوج للحدود يمثل استعارة مناسبة للإبداع الفني الإسباني في العصور الوسطى، إذ تتجسد هنا قدرة المجتمعات ذات العقائد الدينية المختلفة على تطوير اهتمامات وأذواق مشتركة.