كثيرة هي المهن الشاقة والصعبة داخل المجتمع المصري، لكن تبقى مهنة مسؤول مشرحة الموتى من ضمن الأصعب، التي يهرب منها الجميع. إلا أن أشرف القناوي البالغ من العمر 58 سنة، الذي يعد أقدم عامل مشرحة موتى في مستشفى قنا العام بجنوب مصر، قد عشق تلك الوظيفة المخيفة، ووجد فيها ضالته. وصار أشهر من يعملون فيها في صعيد مصر، لكثرة المواقف الصعبة التي مر بها.
عدسة "اندبندنت عربية" زارت مشرحة مستشفى قنا العام، التي تعرف بكثرة استقبالها جثث الجرائم الجنائية، للتعرف إلى كواليس قصة أشرف القناوي مع هذه المهنة.
إخفاء عن الأسرة
داخل المشرحة... هنا تتجمد الجدران وتحبس الأنفاس من رائحة دماء جثث القتل والعنف، إلا أن القناوي ضيفه بترحاب كبير، معلقاً على حالة التوتر "لا تقلق، لا يوجد خوف أو أذى من الأموات، بل إن الأذى لا يأتي إلا من الأحياء".
ويقول القناوي إنه ظل أكثر من 25 عاماً يخفي طبيعة وظيفته عن أسرته، خوفاً عليها من انقباض الناس منها. لم يذكر لها سوى أنه عامل داخل المستشفى، لأن عامل المشرحة ينظر إليه في المجتمع على أنه نذير شؤم وقسوة، على حد وصفه، على الرغم من كونها وظيفة شريفة، يحتاج إليها المجتمع نظراً إلى ازدياد معدلات حوادث الطرق والجرائم الثأرية والجنائية.
ولم ينكر القناوي أنه في بداية العمل كان يفزع من مناظر الدماء والطعنات والأشلاء، إلا أنه بمرور الوقت بات لا يخشاها. وذكر أنه خلال الوردية المسائية، إذا تملكه النعاس خلال فترة الراحة لا يتردد في النوم داخل المشرحة من دون خوف.
ويوضح أن من الخصائص الواجب توافرها في عامل المشرحة التجلد والهدوء، لأن الجثث التي يجري استقبالها تأتي من حوادث وجرائم ملتهبة في العادة، ويجيء أهلها في حالة غاضبة وساخطة. وكذلك لا بد أن يكون أميناً في تحرير محتويات الجثث من أموال ومشغولات ذهبية وفضية، مشيراً إلى أنه وجد سبيكة ذهبية في ملابس أحد الموتى لم تذكر في محضر الإسعاف، إلا أنه قرر تسليمها إلى أسرة الجثة. ويضيف إلى ما سبق، "الإيمان بالله وحفظ سورة البقرة والمعوذتين، والحفاظ على قراءة أذكار الصباح والمساء، لأنها تعطي قلب قائلها قوة وسكينة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهام الوظيفة المخيفة
يقول القناوي إن جميع المستشفيات الحكومية المصرية في داخلها مشرحة، مخصصة لاستقبال جثث الشبه الجنائية والحوادث، لأنها يجب أن تُفحص من قبل فريق من الطب الشرعي لمعرفة كواليس وطرق القتل والوفاة، مما يستدعى تشريحها من أسفل الرقبة بناحية النحر وحتى السرة.
ويضيف القناوي أن وظيفة عامل المشرحة تتلخص في استقبال الجثث، وفحص متعلقاتها وكتابة تقرير بها، ثم إيداع الجثة داخل سرير الثلاجة وضبط درجة حرارة البرودة إلى حين صدور تصريح النيابة العامة بدفنها، وبعد ذلك يجري غسلها داخل المشرحة.
أصعب المواقف
أصعب المواقف التي لم ينسها، كان بعد غرق العبارة "سالم أكسبرس" عام 1991 في مياه البحر الأحمر. فبعد انتشال جثث الغرقى من قبل قوات الإنقاذ، جاؤوا بمئات الجثث إلى مشرحة مستشفى قنا العام، ونظراً إلى كثرتها لم يبق أي سرير شاغراً داخل الثلاجة، فأصبحت أرضية المشرحة تعج بالجثث المتراكمة.
ويروي أن أصوات بكاء ونحيب الثكالى والأرامل، في ذلك اليوم، أدمت قلوب الجميع، بخاصة أن أغلب الضحايا كانوا من الشباب الصغار الذين سافروا للعمل في وظائف بسيطة في الخليج، وقد كانت الجثث في حالة سيئة وتحتاج إلى تبريد عالٍ، نظراً إلى إصابة بعضها بالتعفن بسبب سقوطها في الماء المالح مدة طويلة.
جرائم الثأر
يوضح القناوي أن أغلب الجثث التي يجري استقبالها هي لضحايا الخصومات الثأرية، وتأتي في حالة يرثى لها، فبعضها يكون ممزقاً إلى درجة أنه يجري تجميعها بصعوبة داخل ثلاجة التبريد.
وعن أكبر جرائم الثأر التي لا ينساها، يروي أنه في أبريل (نيسان) 2011، شهدت محافظة قنا أبشع جريمة ثأر في قرية الحجيرات، حينما فتح مسلحون الرصاص من عدة بنادق آلية على سرادق عزاء للانتقام من أسرة بسبب خلافات ثأرية قديمة، وحينها استقبلت مشرحة مستشفى قنا العام ثماني جثث في حالة سيئة.
ويطالب القناوي بضرورة إنهاء الخصومات الثأرية في الصعيد لكونها وقوداً للموت، مشيراً إلى أنه أحياناً يتملكه الحزن والبكاء داخل المشرحة على جثث الأطفال الذين يسقطون خطأ في هذه الخصومات.
جائحة كورونا
يصف القناوي فترة جائحة فيروس كورونا بأصعب الفترات، التي مرت عليه خلال مسيرته الوظيفية، بسبب حالة الخوف التي تتملك الناس من التعامل مع جثث ضحايا الفيروس.
يقول القناوي إن جثث ضحايا فيروس كورونا كانت تحال على مشرحة مستشفى قنا العام، من قسم العناية المركزة، موضحاً أن أصعب ما في هذه الفترة أن بعض الأسر كانت تتخوف بل وتهرب أحياناً من تسلم جثامين ضحاياها خشية انتقال العدوى إليها، فينتقل فريق من مكافحة العدوى لدفن الجثث وسط حضور لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من أقرب المقربين.
ويطالب القناوي وزيرة الصحة بضرورة رفع بدل العدوى للعاملين في مشارح الموتى في المحافظات كافة، نظراً إلى كثرة المخاطر التي يتعرضون لها خلال تعاملهم مع الجثث والأشلاء.