أدى انسحاب حلف شمال الأطلسي (ناتو) وعلى رأسه الجيش الأميركي من أفغانستان إلى فتح أرشيف الأمم المتحدة للبحث في موضوع "التدخل الإنساني" ومبدأ "مسؤولية الحماية"، اللذين على أساسهما جرى التدخل في أفغانستان وغيرها من دول العالم لحماية الشعوب من الأنظمة التي تحكمها. وبات النقاش يدور اليوم بين المثقفين والباحثين والقانونيين والسياسيين حول حدود هذا التدخل، أي الأسباب التي تسمح بالتدخل العسكري في دولة ما، ومن ثم الأسباب التي تحدد انتهاء دور هذا التدخل بقيامه بواجبه أو عدم تمكنه من ذلك.
قصة "مسؤولية الحماية"
في مؤتمر القمة العالمي لعام 2005، أقر رؤساء الدول والحكومات بمسؤولية حماية السكان من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. وتستند بحسب المجتمعين في القمة، "المسؤولية عن الحماية إلى ثلاث ركائز متساوية ومتتالية بحسب ترتيبها: مسؤولية كل دولة عن حماية سكانها أولاً. ومسؤولية المجتمع الدولي عن مساعدة الدول في حماية سكانها ثانياً. ومسؤولية المجتمع الدولي عن الحماية عندما تفشل الدولة بوضوح في حماية سكانها ثالثاً".
وكان اعتماد هذا المبدأ في عام 2005 التزاماً رسمياً من المجتمع الدولي المتمثل في الهيئة العامة للأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن الدولي، بحماية الشعوب بكل الطرق الممكنة ما حمل توقعات كبيرة لمستقبل خالٍ من الجرائم ضد الإنسانية على اختلاف أنواعها المذكورة آنفاً.
أما السؤال المطروح اليوم بعد 15 عاماً على إقرار هذا المبدأ، فهو هل تمكن المجتمع الدولي من حماية الشعوب أم لا؟
الأمم المتحدة في تقاريرها الدورية حول تنفيذ هذا المبدأ تجيب، بأنه "على الرغم من التقدم المُحرز، فإننا ما زلنا بعيدين عن الهدف المتوخى في عام 2005. إن التطورات المثيرة للقلق العميق في السنوات القليلة الماضية تهدد بتوسيع الفجوة بين الالتزام الذي أعرب عنه رؤساء الدول والحكومات والواقع اليومي الذي يواجهه السكان في جميع أنحاء العالم".
وفي رأي الأمانة العامة للأمم المتحدة ومنظماتها التي تراقب تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية، ما تزال هناك مجموعة من الحالات يتعرض السكان فيها إلى خطر جرائم المسؤولية عن الحماية، أو حيث يتواصل ارتكاب تلك الجرائم. وتقع هذه الأزمات على خلفية تراجع النزعة الدولية، وانحسار احترام القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.
موازين القوى ومبدأ مسؤولية الحماية
تُرجع هيئات الأمم المتحدة عدم تطبيق مبدأ "مسؤولية الحماية" في مثل هذه الحالات إلى الانقسام السياسي داخل مجلس الأمن، وتحديداً الدول دائمة العضوية التي تملك القدرة على استخدام حق النقض (الفيتو) على أي قرار يُتخذ، سواء في مجلس الأمن أو في الهيئة العامة، ما يعطل التدخل الدولي وفقاً لمبدأَي "التدخل الإنساني" و"مسؤولية الحماية"، وتتخذ الأمم المتحدة من الحالة السورية مثالاً، وكذلك الحالة العراقية قبلها والحالة الليبية حالياً.
ويرد في التقرير ما حرفيته، أن "محاصرة المجتمعات المدنية في سوريا، وحرمانها من الإغاثة الإنسانية، تثير القلق بشكل خاص، لأنها تسبب معاناة لا يمكن تصورها. وفي عصرنا الحديث، لا ينبغي أن يواجه المدنيون في مناطق الصراع خطر المجاعة أو الموت بسبب الحاجة إلى المساعدة الطبية الأساسية. كما يستمر استهداف الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بأعداد مقلقة".
بيد أن العقبة الرئيسة لا تزال تتمثل في المصالح السياسية القوية من جانب الدول الكبرى التي تعمل على مكافحة العمل المبكر لمعالجة الحالات التي يتعرض فيها السكان للخطر. وكان هذا هو الحال بشكل واضح مع الأزمة التي اندلعت في سوريا خلال صيف عام 2011، واستمرت تلك الدول في عرقلة اتخاذ إجراءات حاسمة حيث أظهرت الحرب الأهلية حالات أكثر تكراراً ووحشية من الجرائم الفظيعة. وعلى الرغم من أن مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة ترى في الوضع السوري سبباً لتطبيق مبدأ الحماية الذي توافق عليه المجتمع الدولي في عام 2005، فإن هذا المجتمع لم يتدخل حتى اليوم بسبب "الانقسامات السياسية" كما يسميها تقرير الأمم المتحدة، وهي المصالح السياسية الأساسية للدول الكبرى كما يجب تسميتها فعلياً، والتي تعرقل تطبيق المبدأ الإنساني الأساسي ما يترك الشعوب وعلى رأسها في هذه الحالة، الشعب السوري، عرضة لجرائم فظيعة ضد الإنسانية ومنها التهجير القسري واستخدام الغازات المحرمة دولياً وسجن المعارضين في معتقلات أقل ما يُقال فيها إنها متوحشة، وغير ذلك من الأفعال التي تخالف القوانين الدولية وتستدعي تدخل المجتمع الدولي. وهناك أصوات تتعالى اليوم حول كون مبدأ التدخل الإنساني أو مسؤولية الحماية، يناقض مبادئ مثل حق الدول في تقرير مصيرها وعدم التدخل في شؤون الدول الذي سمح بوقوع مجازر سريبرينيتسا ورواندا في منتصف التسعينيات. وكانت تلك الفظائع بالطبع القوى الدافعة وراء المضي قدماً في إقرار مبدأ مسؤولية الحماية. وكانت عملية إقراره مسألة عسيرة وصعبة لفك الارتباط بين المبادئ العامة. أي لجعل التدخل لحماية الشعوب خارج حسابات التدخل في الشأن الداخلي للدول. وهو الأمر الذي يشرع ما خاضه حلف "الناتو" من حروب من دون تغطية الأمم المتحدة، سواء في أفغانستان أو في العراق، حيث كان التدخل قراراً منفرداً اتخذته دول هذا الحلف بعد "الفيتو" الروسي والصيني على هاتين الحربين.
التعددية وحقوق الإنسان
وكما يُقال "من لسانه أدينه" أو من أفعاله، فإن المتحدث باسم رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، رئيس ديوانه، تيجان برينك، قال في عام 2020، إنه "بعد 15 عاماً فإن مهمة بناء السلام وإعطاء الأولوية للوقاية وحماية السكان ليست أقل إلحاحاً وأهمية مما كانت عليه في عام 2005، إذ إن الجرائم الفظيعة لا تزال تحدث، وعواقبها مدمرة على المجتمعات الإنسانية وآثارها دائمة ومدمرة"، ودائماً المثال السوري ما زال ساطعاً. وبالطبع ستجد الأمم المتحدة اعتبارات عدة تشير إلى اتجاه إيجابي في تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية، عبر القول إنه "تم تحقيق الكثير منذ عام 2005". أما هذا الكثير بحسب الأمين العام الحالي للأم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فهو أولاً، خلق توافق في الآراء بشأن العديد من العناصر الأساسية لهذا المبدأ، من قبيل، أي إجراء دولي جماعي ينبغي أن يستخدم مجموعة كاملة من التدابير الدبلوماسية والسياسية والإنسانية قبل اللجوء إلى القوة العسكرية التي ينبغي ألا تكون إلا الملاذ الأخير. الإيجابية الثانية، هي أن مجلس الأمن الدولي أشار إلى "المسؤولية عن الحماية" في أكثر من 50 قراراً وبياناً رئاسياً. وثالثاً، ودائماً بحسب تقارير الأمم المتحدة، "شهدنا على مدى العقد الماضي تطور شبكات إقليمية وعالمية من مراكز التنسيق بشأن مسؤولية الحماية ومنع الإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة. وهناك أيضاً مبادرات مهمة جارية لزيادة الوعي بين المشرعين والبرلمانيين بشأن المسؤولية عن الحماية. ويمثل ذلك عملاً حاسماً يجب دعمه".
اقرأ المزيد
- تجربة أفغانستان يجب أن تؤذن بنهاية مبدأ "مسؤولية الحماية"
- ميليشيا "فاطميون" من سوريا إلى أفغانستان
- الانسحاب المأساوي من أفغانستان يترك تداعياته على بايدن
- ميركل في اللقاء الأخير مع بوتين... أفغانستان عنوان خلافي آخر
- لمن ستمنح "طالبان" ثروة أفغانستان من المعادن النادرة؟
- لماذا لم يترك بايدن 2500 جندي في أفغانستان؟
وبالطبع لا يمكن أن نطلب من هيئات الأمم المتحدة أكثر من الاحتفاء اللفظي والكتابي حول تطبيق الاتفاقات الدولية، فهذه أقسى إمكانياتها إضافة إلى الدعم اللوجيستي المادي والمعنوي للشعوب المضطهدة والمقهورة. أما قراءة النتائج بحسب القوى والموازين الدولية، فهو أمر آخر ويدور على الأرض الفعلية للمعركة وليس داخل أروقة الأمم المتحدة ومكاتبها ومنظماتها الكثيرة والمتشعبة، والتي وصفها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن دراية أو عدم دراية، بأنها "مؤسسات طفيلية تعمل على تخبئة الأوساخ تحت السجادة من أموال دافعي الضرائب في العالم، من دون أن تقوم بحل المشاكل الإنسانية المطروحة بشكل فعلي بسبب موازين السياسة الدولية". وبقاء النازحين السوريين في المخيمات منذ عام 2011، وغيرهم من الشعوب كالشعب الفلسطيني المدعوم من الأونروا، والشعوب الأفريقية التي ما زالت حتى اليوم تُهجر من ديارها إلى مخيمات حدودية، كلها أمثلة على كون مؤسسات الأمم المتحدة مجرد "منظف للجراح" لا يوجد مداو لها.
ويأتي الانسحاب الأميركي وحلف الناتو من أفغانستان ليؤكد أن مبدأ مسؤولية الحماية لم يكتمل تطبيقه بعد. فعلى الرغم من مرور 20 سنة على بدء الحرب هناك، فإن الأميركيين وحلفاءهم لم يتمكنوا من بناء دولة مستقلة ومجتمع إنساني قادر على العيش من دون مساعدة أو حماية، فعادت حركة "طالبان" إلى الحكم كما لو أن شيئاً لم يحدث ولم يقع عشرات آلاف القتلى ولم تُصرف تريليونات الدولارات على هذه الحروب أو لتطبيق المبدأ المتفق عليه دولياً. وهذا ما أعاد النقاش حول هذا المبدأ إلى الواجهة، وهنا نأخذ رأي أحد أهم المثقفين الأميركيين، وهو نعوم تشومسكي.
رأي تشومسكي
يرى الفليسوف الأميركي الذي اختير كـ"المثقف الأكثر نفوذاً في القرن العشرين أنه خلال مسيرة التاريخ، لا نجد إلا مبادئ قليلة متصلة بالشؤون الدولية يمكن أن تنطبق على مبدأ التدخل الإنساني عموماً. أحدها فكرة المؤرخ الإغريقي ثوكيديدس بأن الأقوياء يفعلون ما يحلو لهم بينما الضعفاء يعانون بحُكم الضرورة. وثمة نتيجة لازمة هي ما يسميه الخبير البارز في القانون الدولي، إيان براونلي (Ian Brownlie) "منهج الهيمنة في التشريع"، أي أن صوت الأقوياء يطرح السوابق التي تتحكم في كيفية تطبيق القانون عملياً.
ففي رأي تشومسكي الذي عارض بشدة التدخل الأميركي في العراق وأفغانستان، أن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها محظور بشدة في العلاقات الدولية. وهذا يعني أن القائد السياسي الذي يصرح بأن "الخيارات كلها مفتوحة" ينتهك القانون الدولي، وإن كان هذا القائد مسؤولاً في الحكومة الأميركية، فهو ينتهك الدستور الأميركي أيضاً الذي يعد ميثاق الأمم المتحدة كالقانون الأعلى في البلاد. ونجد الخلاصة ذاتها في عام 2004 من جانب "اللجنة العليا للتهديدات والتحديات والتغيير" التابعة للأمم المتحدة. إذ تبنت هذه اللجنة رأي محكمة العدل الدولية وحركة عدم الانحياز، لتَخلص إلى أن "المادة 51 [من ميثاق الأمم المتحدة] ليست بحاجة إلى توسيع أو تضييق مداها المتعارف عليه منذ زمن مديد. إذ تقدم المادة المذكورة الاستثناء الوحيد لصالح استخدام القوة ما لم يُشرَّع من جانب مجلس الأمن. وتمنح تلك المادة حق الدفاع عن النفس ضد الهجوم المسلح إلى أن يصير بإمكان مجلس الأمن التدخل لمعاقبة المعتدي، و"الهجوم المسلح" مفهوم لا يحظى بتأويل واسع في القانون الدولي. فالسماح لأي طرف بالمبادرة يعني السماح للجميع، وهذا خيار غير وارد بكل تأكيد"، دائماً بحسب تحليل تشومسكي.
وفي رأيه فإنه لهذا السبب، تبنى مؤتمر القمة العالمي الذي نظمته الأمم المتحدة في عام 2005، الموقف المبدئي نفسه. وإضافة إلى إعادة التأكيد على المواقف المتوافق عليها من قبل، شددت القمة أيضاً على رغبتها "في اتخاذ موقف جماعي من خلال مجلس الأمن، بالتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة. حينما لا تعود الوسائل السلمية كافية وحين يتبين إخفاق سلطات الدول في حماية سكانها من الجرائم الفادحة. وفي أفضل الأحوال، فإن التصريح يعزز صياغة المادة 42 من ميثاق الأمم المتحدة بشأن السماح لمجلس الأمن باللجوء إلى القوة.
وفي اختصار رأي تشومسكي الذي يرى أن "التدخل الإنساني" و"مسؤولية الحماية" ليسا سوى وسيلة لتحقيق الدول الكبرى مصالحها على حساب الشعوب، باتخاذه مثالاً قرار الناتو أن "نطاق صلاحياته" يمتد إلى أفغانستان، بل وأبعد منها. إذ أبلغ السكرتير العام للحلف ياب دي هوب شيفر اجتماعاً للحلف في يونيو (حزيران) 2007، أن "على قوات الناتو حماية الأنابيب التي تنقل النفط والغاز اللذين يُصدران إلى الغرب"، كما تقع على عاتقه أيضاً حماية الطرق البحرية التي تستخدمها ناقلات النفط و«بنى تحتية أساسية» أخرى ضمن منظومة الطاقة. وبذلك فإن نطاق صلاحيات حلف الناتو يشمل العالم كله.